البث المباشر

مرفأ الأمل ۱

الثلاثاء 8 أكتوبر 2019 - 09:53 بتوقيت طهران

اذاعة طهران – قصص الصالحين : الحلقة : 34

 

الأمر مختلف جداً، الأبوان يستقبلان وليدهما وهو يطل من رحم الحياة. يفتح عينيه لأول مرة في مهده ثم يضيق به ليدرج وليقف على قدميه ثم يشتد عوده. وشيئاً فشيئاً يشق طريقه في الحياة. وربما دخل الأبوان مرة اخرى بمثل هذه التجربة وظلا يرقبان أطوارها طوراً طوراً حتى تبلغ مرحلة النضوج والإكتفاء. والأمر مختلف ايضاً عندما يبذر الفلاح بذره او يغرس غرسه ويظل يتعهدها بالسقي والرعاية وهو يعد الشهور والفصول إنتظاراً لليوم الذي يمد يده لإقتطاف أولى ثمار تعبه.
أجل الأمر مختلف جداً اذا ما قيس بمسيرات الرسالات والانقلابات العقائدية الكبرى ومراحل التغيير الاجتماعي الخطيرة وصبر وثبات القيادات الربانية، القيادات التي اعدتها السماء لمواكبة الأشواط الطويلة من عمر البشرية بالإرشاد والتوجيه والعناية. وهناك على صفحات ذلك التقويم التاريخي العتيد يتوانى الزمن وتثقل خطواته وتمسي الأيام والشهور بل وحتى السنون والعقود وحدات قياس غير صالحة لتقدير حركته وتطوره. اجل فها هو المجتمع التوحيدي الذي جاهد ابراهيم خليل الرحمن من اجل إرساء دعائمه لايزال وهو في جيله الثالث صبياً صغيراً لايكاد يقف على قدميه، زرعاً لم يستوي على سوقه وبناءاً لم يرتفع على أساسه إلا بمقدار ضئيل. وعلى خطى أسلافه الصالحين يشمر يعقوب عليه السلام عن ذراع الجد ويبذل جهوده المخلصة لأن يضع لبنات جديدة في ذلك البناء الذي تتعهده السماء. أجل إنه يعرف أن أمامه طريقاً طويلاً طويلاً، عليه أن يجتاز مفازه ويقطع شوطاً بعيداً بعيداً ولكن لاضير فصبره الرسالي وأمله الكبير ويقينه أن عمله يحظى بمباركة السماء ورغبته المخلصة لهداية الناس وإسعادهم وقبل ذلك كله الجائزة الإلهية التي ينتظر تسلمها في النهاية، كلها عوامل تدفعه للعمل والمثابرة والمضي في طريقه دون تلكأ اوإلتفات الى الوراء.
مع آفاق الصباح الأولى إنبعثت الحياة من رقادها ودب النشاط في الخلائق شيئاً فشيئاً وككثير من أبواب الدور التي تفتح في تلك الساعة حيث يتوجه الرجال الى الحقول والمراعي ومحال العمل فتح فتى يافع مشرق القسمات باباً خشبياً هرماً ثم تنحى جانباً فاسحاً الطريق لمرور كوكبة من الشباب وهم يحملون المعاول والفؤوس. كان كل واحد منهم يخرج وعلى لسانه بقية كلمات يتفوه بها:
فلتدعو الله لنا يا أياه!
لتشملنا بركاتك يا أباه!
أذكرنا في صلواتك يا أباه!
ومن داخل الدار كان يسمع صوت شيخ يرد بوقار وحنان على كلمات التوديع تلك. وقبل أن يودع آخر شاب الدار إلتفت الى الفتى الذي أخذ يراوح في مكانه وكأنه يستعجل إغلاق الباب والعودة الى داخل الدار وقال بلهجة متحاملة متهكمة: هه وأنت يايوسف ألم تكبر بعد لتخرج معنا الى العمل أم أنك ما زلت صغيراً؟!
وبدا أن الكلام ذاك لبى حاجة في نفوس الشباب الآخرين فإنبرى أحدهم الى القول بلهجة ساخرة وكأنه يعني شخصاً آخر: دع الصبي فهو لايزال بحاجة الى الحنان والرعاية!!
لم يجب الفتى بل إنسحب الى الداخل عجلاً مغلقاً الباب خلفه.
على ملامح أبيه النورانية المهابة قرأ سطور الأمل وهو يهم بالجلوس وأدرك على صغره أن الكلمات التي فاه بها أخوه آنفاً قد خدشت مشاعر الأبوة النقية. اذن لم يعد من المناسب له أن يتحدث الى أبيه الآن، ينبغي أن يلتزم الصمت احتراماً لمشاعره ولكنه يريد أن يتحدث، يريد أن يقول له شيئاً! أجل يريد أن يخبره عن هذا الشيء العجيب المحير الذي رآه في عالم النوم!
وهمس! رفع الشيخ رأسه ولما رأى التردد في عيني يوسف الجميلتين إبتسم مشجعاً فإنطلق الفتى يقول: "ياأبت إني رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين".
تمازجت الفرحة والرهبة في نظرات الشيخ وهو يجيب: "لاتقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيداً إن الشيطان للإنسان عدو مبين".
وتأمل الشيخ ملامح ولده الوضيئة المشرقة بإعجاب ثم اطرق وهو يضيف: "وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل ابراهيم واسحق إن ربك عليم حكيم".
كثيراً ما تصف أقلام الأدباء المبدعين مشاهد الطبيعة الحية فتقرب الى الأسماع المرهفة لحناً رقيقاً تمتزج فيه بوسقة الطيور في أعشاشها بخفيف اوراق الشجر وهي تتراقص مأخوذة بنشوة نسيمات الصباح او تنفذ الشمس بريشة فنان موهوب حورية شقراء تنثر جدائلها الذهبية على مدى الفضاء فتبعث بطلعتها الآسرة الدفء في القلوب. أجل فقلم الأديب وريشة الفنان يجهدان ليريا الآخرين ومضة نور، حزمة شعاع، رشحة ضياء، مسحة جمال ولكن أيمكن أن يتجسد الجمال كله في شيء، في أحد؟؟
كانت عيناه الآسرتان تحملان على الجواب بنعم! وأي عينان كانت تلك العينان الساحرتان الآمرتان؟ وأي جبين هذا الذي كأنه قبس من نجم متلألأ على الدوام؟ لكنه ينفض حزماً وإباءاً ورجولة وقوة، إنه يوسف الذي أسبرت عليه السماء نعمة الحسن والبهاء حتى حسده أبناء أبيه!
أجل حسدوه! والحسد نار تتلظى، تأكل قلب الحاسد وتمد لسانها طلباً لمزيد وقود.
كلمة لامقصودة، نبرة عابرة، ابتسامة بريئة، تفوق بسيط، تعبير عن إعتزاز كلها تنقلب في قاموس الحاسد وتصبح لها معاني ودلالات اخرى تذكي نار حسده وتزيد لظاها وإضطرامها أواراً وإزدهاراً بل وتصيب شراراتها غيره ايضاً. أجل فلم يأمن يوسف شرور الحسد حتى تعدت الى اخ صغير له ايضاً.
خيم الليل على الأرجاء ولفت أستار الظلام كل شيء فلم يعد يتخيل إلا أشباحاً متلفعة بأبراد سوداء تدب بحذر وكأنها تخشى إنكشاف جريمة تسعى لتدبيرها. وفي احدى غرف ذلك البيت الذي طالما شع بالنور والهداية، جلس عدة رجال متهامسين وراحوا ينسجون خيوط جريمة مروعة:
ههه يوسف يقول لأبيه أنه يرى كواكب ويرى الشموس والأقمار تخر عند قدميه ساجدة!!
والشيخ يفتتن بهذا الكلام ويهيم به أي هيام!
ههه "أيوسف وأخوه أحب الى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين"
أينبغي أن يبقى يوسف وأخوه مستحوذين على قلب أبينا دوننا؟
أليس هناك من حل؟
"أقتلوا يوسف او أطرحوه أرضاً يخلو لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوماً صالحين"
"لاتقتلوا يوسف"!!
ماذا؟
" وألقوه في غيابت الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين"
حسن حسن هذا هو الرأي ولكن كيف ستحتالون في اخذه من أبيه؟؟
صمت الجميع للحظات غير أن أحدهم إنبرى يتحدث بصوت خافت فإستحسن الباقون رأيه وتعاهدوا على التعاون في تنفيذه مع الصباح.
"يا أبانا مالك لاتأمنا على يوسف وإنا له لناصحون"
"أرسله معنا غداً يرتع ويلعب وإنا له لحافظون"
"أني ليحزنني أن تذهبوا به واخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون"
ههه "لأن أكله الذئب ونحن عصبة إنا اذن لخاسرون".
وامام الإصرار ذاك لم يجد يعقوب عليه السلام إلا ليذعن لهذا الطلب ويكتفي ببعض التوصيات التحرزية. وينطلق الفتى مع إخوته في حين ينسحب الشيخ الى داخل البيت وقلبه ينوء بشعور ثقيل غامر. ترى لماذا يعتريه مثل هذا الشعور؟ أهو من أجل يوسف؟ ولكن لماذا؟ ما عشى أن يحدث له؟
أجل لقد كانت مرآة هذا القلب الرباني تحكي عن مخاوف حقة وكانت تلتقط من بعيد من اميال عدة شارات إستغاثة. وتمتد الأيدي لتنتزع منه قميصه ومن ثم تدلي به في البئر، إنتزعوا قميصه، فالجريمة بحاجة الى قميص. إنها لاتستطيع أن تنزل الى الشارع وأمام انظار الناس عارية، لابد لها أن تتقمص!! تخفي بشاعتها بالمسوح والقمصان.
"وجاؤا أباهم عشاءاً يبكون"
أجل ياأبانا "إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب"
فوجئ الشيخ، حاول أن يتماسك!!
"وما انت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين"
أنظر يا أبه، أنظر هاهو قميصه قد تلطخ بدمه الزاهي!
توهجت عينا الشيخ بنار الغضب ودمدم: "بل سولت لكم انفسكم امراً"
وكأن نيران الغضب سكنت فجأة فأضاف بعد صمت قصير: "فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون".
فاه الشيخ بهذه الكلمات واقفاً ثم كمن تخاذلت قواه هوى للجاوس وقد فاضت عيناه بالدموع.
كان الظلام يلف كل شيء حوله اذا أخرج يده لم يكد يراها، زنزانة صغيرة سوداء ولو لم يقيض له الله هذه الصخرة التي يجلس عليها لوجد نفسه يغرق في ماء البئر. وعند سقف تلك الزنزانة التي تشبه الإسطوانة الطويلة حلقة، دائرة ضياء صغيرة لاتكاد تبين. ورغم حداثة سنه فلم يرهب ذلك القبر الموحش بل كان أمله يسرج له ما شاء من قناديل وايمانه يمنيه النجاة.
ما هذا؟ أي أماني باطلة ما يسمع أمن حقيقة؟
كلا كلا إنها قافلة مارة بلاشك! ولكن أتراهم سيردون الماء؟ يا إلهي، ولكن ماله يستعجل، ماله يستعجل الأمر؟ ماله يريد كل شيء أن يمر عبر يديه وتدبيره هو؟
"أليس الله بكاف عبد"؟؟
 

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة