خلاصة القسم الأول
إنها الحرب التي عليها أن يخوضها مهما كلف الأمر. لم تخطأ حدسه هذه النتيجة ولكن أي نوع من الحروب هي؟ إنها تبحث عن نمط فريد، نموذج نادر يتخطى كل الحسابات، كل المعادلات، ينسف كل الجسور المؤدية الى سجن الدنيا الكبير ليفتح الطريق بوجه رواد الحياة الكريمة في ظل الرسالة الاسلامية المقدسة. الرسالة التي أراد لها الجاهليون أن تخنق بل وتقبر فنشطوا بعد غياب قائدها الفذ الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله يتآمرون على حياتها ووجودها. ومن كالحسين الذي ضحى جده ما ضحى من اجل تبليغ دعوة الاسلام ونشرها وجاهد أبوه طويلاً حتى جاد بحياته في سبيل تحققها وإمتدادها ومن ثم إعادتها الى مسيرتها الأولى؟ من كالحسين حرص عليها وإدراكاً ووعياً لمسؤوليته في حفظها وصيانتها؟ وهكذا أعلنها ثورة بوجه الجاهلية الحاكمة. وتبادر الجماهير الكوفة التي تسامعت بهذه الصيحة الحسينية المدوية لتعلن ولاءها للثائر الكبير، ويتحرك الحسين نحو العراق بقافلة صغيرة ضمت اهل بيته وجمعاً من أنصاره. ويتلقى وهو في الطريق أنباء تخاذل الكوفة غير أنه يمضي في عزمه رغم كل ذلك، ولكنه لايريد لغيره أن يتحمل دون وعي وايمان ذاتيين كاملين نتائج القرار الذي إتخذه هو فيتقدم من أصحابه بعد أن ضمهم معسكرهم في كربلاء يعرض عليهم الإنسحاب قبل بدأ المعركة والنجاة بأنفسهم، إلا أن العرض ذاك يواجه بصيحات الرفض ودموع الولاء ايضاً: نقاتل معك حتى نرد موردك!
أجل كانت عزائم الرجال كبيرة جداً وظلت تكبر وتكبر كلما كبر وتوسع معسكر الأعداء. ويطلق أحدهم ضحكة صافية وهو يحاور صاحبه فيستغرب الآخر ويقول في إستنكار: ماهذه ساعة ضحك!!
ويجيبه وعيونه تغرق في حبور: إنما أفعل ذلك إستبشاراً بما نصير اليه.
ويضيف: فوالله ماهو إلا أن نلقى هؤلاء القوم بأسيافنا نعالجهم بها ساعة ثم نعانق الحور العين!!
القسم الثاني
كانت التعليمات التي وجهها الوالي اليزيدي على الكوفة بقيادة جيشه مشددة وصارمة تقضي بتضييق الحصار وقطع الإمدادات ومنع الماء عن معسكر الحسين وهي فوق ذلك صريحة بعدم إمهال الجيش الحسيني والسعي من أجل الإجهاز عليه سريعاً محذرة من أي تردد او تماهل قد يؤدي الى حصول تطورات غير محسوبة كإشارة الى إحتمال وصول تعزيزات قتالية لمعسكر الثوار ولهذا فقد رفض إبتداءاً مبدأ المنازلة الفردية وإلتحم الجيشان غير المتكافئان في معركة ضارية. كان الجيش المعادي دفعاً كالطوفان فما هي إلا جولة قصيرة حتى يحسم المعركة لصالحه ويسوي كل شيء ولم يكن يحسب أن مفاجئة مذهلة تنتظره وهو يهم بنقل خطاه. قاتل الثوار ببسالة منقطعة النظير ورغم المشهد الماثل للعيان فقد كان أمراً صعباً تصور أفراد قلائل يقاومون تياراً جارفاً يتساقط منهم قتيل وقتيلان وثلاثة ويرتفع العدد الى عشرين لأنهم يثبتون له حتى يكشفوه ويعيدوه على أعقابه.
تشعر قيادة الجيش المعادي أنها مرغمة هذه المرة للأستجابة لدعوات التحدي والمنازلة مضطرة لقبول هذا التحدي الثائر الحسيني الأسمر الذي ما فتأ يقرع الأسماع بكلماته الصلبة العنيدة: ألا رجل برجل؟
وتبرز اليه الرجال بهامات متشامخة لأن سرعان ما يعفرها التراب.
ويشتد الخطب على الجيش المعادي فينادي: إضربوه بالحجارة!
عندها يشد الثائر على صفوف الأعداء فتضطرب وتفر بين يديه كفرار الخراف أمام الذئب. ويقف، ماذا يفعل؟ من يحارب؟ لاأحد يثبت أمامه، لاأحد!!
وتراود ذهنه فكرة يأخذ بها في الحال فيلقي عن نفسه لامة الحرب ولايبقي معه إلا السيف ثم يغوص في قلب الأعداء.
إرتفعت الشمس الى كبد السماء ولم تزل المعركة تدور بضراوة، يرمق أحد الصحاب الشمس ويهتف: أبا عبد الله نفسي لنفسك الفداء، هؤلاء إقتربوا منك! لا والله لاتقتل حتى أقتل دونك! أحب أن ألقى الله ربي وقد صليت هذه الصلاة.
رفع الحسين رأسه الى السماء وقال: ذكرت الصلاة، جعلك الله من المصلين. نعم هذا اول وقتها. سلوهم أن يكفوا عنا حتى نصلي!!
وقف القائد وسط لهيب المعركة بين يدي ربه مصلياً فيما تقدم إثنان من أصحابه امامه لحمايته. تجاهل معسكر الأعداء دعوة الهدنة المؤقتة وواصل حربه الشعواء ضد المعسكر الحسيني. لاحظ القادة اليزيديون أن مثل هذه الفرصة حيث ينشغل الحسين بالصلاة يمكن إغتنامها وتوجيه أسلحتهم اليهم مباشرة، وهكذا إنطلقت السهام المسمومة مستهدفة شخص القائد وفي لمحة بصر قفز احد الرجلين يتلقى بصدره السهم المنطلق بقوة. إهتز قليلاً تحت وطأة الألم إلا أنه ترك الدماء المنبسجة تجري على رسلها وراح يحد النظر خشية وصول سهم آخر. إنها تجربة من نوع عجيب تلك التي تدفع إنساناً لكي يتسامى على الأمل جاعلاً من جسده متراساً لآخر. ولم يطل انتظاره فقد توالت السهام القاتلة تغرس بوحشية نصولها الحادة في بدنه، ولم تكن تقلصات الألم، هذه النيران التي بدأت تشب هنا وهناك على طول مساحة جسده وعرضها لتدع الخور يتسلل الى ارادته الفولاذية المتعالية. وما أسمى الابتسامة التي طفت على قسماته رغم غضون الألم وهو يقول: أوفيت يا أبا عبد الله؟؟
ها هي الحرب تدخل مرحلتها الأخيرة وها هي سيوف البغي تحصد الفتيان والأطفال الرضع بعد أن جالدت طويلاً الرجال والفرسان. وفي لحظة تلمح عينا القائد فتى صغيراً وهو مقبل اليه على عجل متقلداً سيفاً راح يخط الأرض من وراءه فيقول لجنوده: هذا فتى قتل أبوه في المعركة ولعل أمه تكره خروجه!
إلا أن الفتى يهرول خشية أن يمنع من بلوغ مرامه ويهتف: أبا عبد الله! والله إن أمي هي التي أمرتني بالخروج. ويبرز وهو يرتجز:
أميري حسين ونعم الأمير
سرور فؤاد البشير النذير
علي وفاطمة والداه
فهل تعلمون له من نظير؟
له طلعة مثل شمس الضحى
له غرة مثل بدر منير
ويصول الفتى في ميدان الحرب، يضرب بسيفه رقاب البغاة قبل أن تناله سيوفهم الغادرة وتحتز رأسه الجميل!
أجل ذبحوا الطهر والبراءة، قتلوا البسمة الصافية، خنقوا الوردة المتفتحة ولم تزل في أكمامها. وما تفتأ السيوف تقطر دماءاً ودماءاً وهذا وجه كفلقة قمر قسماته تدل عليه لابد أن يكون من هذا البيت، من بيت النبوة، هذا الفتى الذي برز الى ساحة الميدان وهو يرتجز:
إن تنكروني فأنا إبن الحسن
سبط النبي المصطفى والمؤتمن
هذا حسين كالأسير المرتهن
بين أناس لاصقوا صوب المزن
ونعم ما إفتخر الفتى فسار مقتحماً ميدان الوغى غير هياب ولاوجل. ثم كشف سيفه وشد عليهم مطلقاً له العنان يعمل في نقابهم كيف يشاء ويندفع يطارد خصومه وفي عنفوان هذه المطاردة يتوقف، لماذا توقف البطل الصغير؟ إنه ينحني ليشد شسع نعله الذي إنقطع. عجباً إنه نوع نادر من الإباء، إن رجولته تأبى عليه أن يتخلى عن نعله فيقال إنه لسبب ما قد إحتفى أي أن القوم يحتوشونه من كل جانب. وهكذا دفع فتى البيت النبوي ثمن بطولته الفذة.
وتستمر المعركة وتدور رحاها عنيفة طاحنة وتتوقف قلوب الثوار الأبرار، رواد الدرب الحسيني، الواحد تلو الآخر عن أن تخفق في صدورهم. ويبقى قائد الثورة وحيداً في ساحة الوغى، جبهات كثيرة كانت جديرة أن يخوض عليها أكثر من معركة. فها هي ساحة القتال أمام ناظريه مزروعة بأجساد أبناءه وإخوانه وذويه وأحباءه وها هي السيوف والرماح والنبال بيد أعداءه ظمئى لدماءه. وها هم الأطفال والنساء، أسرته وبعض أسر ذويه وصحبه عزل أمام الأعداء.
يمم الحسين وجهه شطر المخيم يودع أهله ثم ينقلب الى ساحة الحرب، هدج القوم بنظرة طويلة، هذه الأجساد المنتمخة، السقيمة، الممتلئة الخاوية، المتعجرفة، المسلوبة الارادة، هؤلاء الناس الذين لايمتلكون من امرهم شيئاً، لايملكون أن يفكروا بعقولهم، لايقدرون أن يصدروا عن ارادتهم، ليسوا أكثر من ادوات جامدة متحجرة لاتملك لنفسها نفعاً ولاضراً إلا أن يشاء لها السلطان.
ويطلق الحسين لجواده العنان وتجفل الخيل بفرسانها، يسوقهم نحو حتفهم المحتوم. وتنطلق صيحات التحذير من كل مكان وبعد شوط طويل من القتال يعود الفارس يتفقد عائلته فتتعالى الصرخات: دونكم الرجل مادام مشغولاً بأهله، تا الله لو فرغ لكم لاتمتاز ميمنتكم عن ميسرتكم!!
ويقف أحدهم وقد بصر بالحسين عن كثب ليقول لصاحبه: أرأيت؟؟
ماذا؟
ألا تنظر لوجه الرجل؟
كلا، ماله؟
والله مارأيته مكسوراً قط فقد أولاده وإخوته وأهل بيته مثله!!
راحت الشمس تتوارى شيئاً فشيئاً كأنها تهرب أن تكون شاهدة على الجريمة النكراء. وتوهج الشفق بحمرة الدماء التي صبغت وجه الثرى وأطبق السكون على تلك الأرجاء وكأن كل شيء قد أخلد الى الصمت حداداً على الحدث الجلل. وبدأت صفحة السماء كما لو أنها صفحة منزوعة من ضمير الغيب. راحت تغرق في لجة حمراء، حمراء قانية لانهاية لها.