لم يبق أمامه بعد جميع الخيارات التي عرضها إلا أن يخوض الحرب. كانت هذه النتيجة واضحة لديه منذ البداية ولم يكن هذا الأمر ليغول حتى لو أغضي عن شخصيته النادرة الفذة، ذلك إن لم يكن بالشيء الذي لم يألفه او لنقل إن التجربة المنتظرة لم تكن التجربة الأولى او البكر في حياة الرجل. فقد شهده العديد من سوح القتال وهو في رعيان الشباب جندياً باسلاً مندفعاً لتبليغ رسالة الاسلام خارج جزيرة العرب او ذائداً عنها مؤامرات المتربصين في الداخل وقائداً مجرباً ومحنكاً يدير المعارك ويخطط لها بحكمة ومهارة نادرتين. وليس في طبيعة المهمة التي تنتظره او ينتظرها من هذا او ذاك وحسب فلاهي مقصورة على بسالة الجندي المندفع المضحي ولاهي رهينة مهارة ودراية القائد المحنك القدير، إنها تبحث عن نمط فريد، نموذج نادر، رجل ينسف كل الجسور التي تصله بهذه الحياة تربطه بالدنيا ليمد بنفسه جسور العبور بالآخرين الى حياة أرحب، حياة كريمة في ظل الرسالة التي سيرفدها بدماءه الحارة. أجل سيخوض المعركة رغم ما يلوح في الأفق القريب أنها لن تحصد شيئاً آخر غير الهزيمة العسكرية المحققة.
وعلى شحوب قرص الشمس وهو يسير مترنحاً نحو المغيب وتناهت اليه وهو في وقفته التأملية تلك أصوات مبهمة، مالبثت أن أصبحت ضجيجاً راح يرتفع شيئاً فشيئاً. مدّ ببصره صوب معسكر العدو فشاهد على البعد قوافل عسكرية كبيرة بدأت تقترب ثم تنحاز الى المعسكر الكبير ولم يملك إلا أن يلتفت الى الخلف حيث تلاصقت بضع عشرات من الخيم الصغيرة تمثل مقرات أنصاره وأهل بيته، المعسكر الذي يكون عليه في الغد منازلة المعسكر الكبير.
بدأت صفحة السماء الناصعة تتشح قليلاً قليلاً بالسواد وهبط الليل ثقيلاً كئيباً وإنحدر الرجل حيث خيم عسكره الصغير.
أن تحنو على شيء تحوطه وترعاه وتنميه وتشهده يزهر ويكبر وتتدفق في أصوله الحياة ويشتد عوده ثم تجد من يغير عليه، يستل منه بغلظة جذوة الحياة فتغيض إشراقته وينطفأ ويذوي فذلك أمر مض. ولكن الأشد من ذلك أن تجد ما وجدت وقد كنت بذلت له من دمك وعمرك وجهدك الشيء الكثير الكثير. أجل هكذا رأي الحسين بن علي آماله الرسالية توأد الواحد تلو الآخر، هذه الآمال التي عانى جده الرسول من أجلها ما عانى وجاهد أبوه في سبيل تحققها وإمتدادها حتى جاد بحياته. وفجأة يشع الأمل وتشرق النفوس، نفوس اولئك المستضعفين الذين نعموا بالحياة الاسلامية الكريمة ولمسوا فيها تجسيداً لطموحهم وتوقهم الدائم لعدل والكرامة. أجل أشرق الأمل كإلتماع البرق في الليلة الظلماء المتلهمة عندما بدأت الحركة التصحيحية نهضتها المباركة لتعيد الأمور الى مجاريها الى سابق عهدها المحمدي الأصيل الناصع، بيد أن هذه الحركة إنطلقت في وقت إستفحلت فيه المؤامرة وبلغت اوجها ولم يكن هناك من سبيل بعد أن سرت روح التخاذل وشاعت حالة سوء الظن لوقف المد الجاهلي المستشري. وكما بدأت الحركة تلك إنتهت وشيئاً فشيئاً طفق الأمل في نفوس المستضعفين وتطايرت الأحلام الوردية الجميلة بالحياة الكريمة العزيزة ولكن هل إنطفأ الأمل؟ كلا، إنه خبى وحسب فلا زال هناك بصيص أمل بالخلاص يراود المخيلات ويراود الأحلام. ولم لا؟ ألم تردد بطاح الميدنة المنورة بالأمس صيحة الرفض المجلجلة التي إنطلقت من البيت النبوي الشريف؟ ألم تلبي الجماهير المسلمة في الكوفة النداء الذي وجهه سبط الرسول صلى الله عليه وآله؟ ألم يأخذ الحسين طريقه الى العراق معلناً عن ثورته ورفضه لحكم يزيد الطاغية الأرعن؟ ولكن ماذا لو صدق ما يقال عن تراجع أهل الكوفة وتنكرهم لعهودهم مع الحسين؟ ترى هل يتراجع الحسين هو الآخر أم يمضي في عزمه؟
إنطلق رجل من الخيمة الكبيرة وهو يهتف: أبو عبد الله يدعوكم اليه!
بادر القوم سراعاً وكلمات الإجابة تتناثر من أفواههم بحرارة وصدق واخلاص: لبيك أبا عبد الله!
لبيك يابن رسول الله!
وإحتشد الرجال داخل الخيمة في حلقة كبيرة وقد تعلقت عيونهم بالقائد الذي وقف يجيل نظراته فيهم وفي عينيه ألق من نور سماوي. ترى ما الذي يريد أن يقوله الحسين؟ هل حصل تطور ما؟ هل طرأ تغير في موقف الكوفيين المتخاذل؟ هل وردته أنباء جديدة؟ وفيما كانت هذه الأسئلة تدور في رؤوس الصحاب بإلحاح صافحت آذانهم كلمات هادئة رخيمة تدفقت بطلاقة وسلاسة ويسر: أثني على الله أحسن الثناء وأحمده على السراء والضراء. اللهم أني أحمدك على أن أكرمتنا النبوة وعلمتنا القرآن وفقهتنا في الدين وجعلت لنا أسماعاً وأبصاراً وأفئدة فإجعلنا من الشاكرين. أما بعد فإني لاأعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي ولاأهل بيت أبر وأوصل من أهل بيتي فجزاكم الله عني خيراً. ألا وإني لأظن يوماً لنا من هؤلاء، ألا وإني قد أذنت لكم فإنطلقوا جميعاً في حل ليس عليكم حرج مني ولاذمام. هذا الليل قد غشيكم فإتخذوه جملاً.
أصغى الرجال بقلوبهم وعقولهم وكانت الدموع المنهمرة بصمت تحكي عن عمق الولاء ومدى الحب الذي يكنونه لزعيمهم غير أن العبارة الأخيرة كان لها وقع آخر تماماً وكان رد الفعل الأولي لهم أن جفلوا وكأن وتراً حساساً قد مس فيهم. وعلى غير ما ألفوه من التأدب مع قائدهم هدرت عدة أصوات في وقت واحد: لم نفعل ذلك؟؟ ثم اختلفت الأصوات وتداخلت: ألنبقى بعدك؟ لاأرانا الله ذلك أبداً! نفديك بأموالنا وأنفسنا وأهلنا! نقاتل معك حتى نرد موردك! قبح الله العيش بعدك!!
ووثب رجل منهم ليقول بصوت يقاطعه النحيب: أنحن نخلي عنك وبماذا نعتذر الى الله في أداء حقك؟ لا والله حتى أطعن في صدورهم برمحي وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي! ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة!
ووقف ثاني ليقول: والله لوددت إني قتلت ثم نشرت ثم قتلت حتى أقتل هكذا ألف مرة وأن الله يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتيان من اهل بيتك! وأردف كالمغيظ: قد سمعنا قد هداك الله يابن رسول الله مقالتك ولو كانت الدنيا لنا باقية وكنا مخلدين لآثرنا النهوض معك على الإقامة فيها!
ومن بين القوم تحامل شيخ كبير على نفسه ونهض مستعيناً بسيفه وفاه بكلمات يجللها الوقار: والله يابن رسول الله لقد من الله بك علينا أن نقاتل بين يديك فتقطع فيك أعضاءنا ثم يكون جدك شفيعنا يوم القيامة.
وإندفع رابع ليقول وهو مطرق الرأس وكأنه يتلو إبتهالاً: والله ما كرهنا لقاء ربنا وإنا على نياتنا وبصائرنا نوالي من والاك ونعادي من عاداك.
ويوالي الرجال التعبير عن مكنون نفوسهم بفيض من المشاعر الجياشة وعيون مئلها الدموع ويعاود الحسين المحاولة ثانية وثالثة ورابعة لثنيهم عن عزمهم إلا أنه يجدهم في كل مرة أكثر إصراراً وتمسكاً بقرارهم الصعب، قرار التضحية والشهادة فينصرف وقلبه الكبير يخفق شفقة وحنواً.
كان الهدوء يسم كل شيء في المعسكر الصغير ولولا بضع أشخاص تناثروا هنا وهناك لكان طبيعياً الاعتقاد أن القوم لازالوا يغطون في النوم ولم يكحل نور الفجر عيونهم بعد. وفي أحد اركان المخيم إنزوت خيمة صغيرة وقف على بابها رجلان كان المتقدم منهما شيخاً كبيراً تلوح من بين خديه التجاعيد التي غزت وجهه إبتسامة مشرقة راضية أما الآخر والذي بدا أنه عبر الخطوات الأولى نحو الكهولة فقد كان ساهماً مفكراً. وتلحظ عينا الشيخ الكبيرتان هذه السحابة الطافية على وجه صاحبه فيحاول تبديدها ويتلطف له بالقول ويضاحكه فيعجب الرجل، تغيب علائم السهوم والتفكير من قسماته لتعلوها امارات الدهشة والإستغراب ويسأل بإنكار: أتضحك؟
يجيبه الشيخ ولازالت الابتسامة العريضة تضيء وجهه الوقور: ههه ولم لا!
وفي لمحة بصر يمر امام خيال الرجل مشهد الحرب التي لم يبق على إندلاعها إلا سويعات قليلة، أجساد مزروعة هنا وهناك، دماء تصبغ الأرض، صراخ الأطفال وعويل النساء. ويحرك يده بشكل لاإرادي كأنما يحاول إبعاد هذا المشهد ويقول بمرارة وألم: ماهذه ساعة ضحك ولاباطل!
والله ما احببت الباطل كهلاً ولاشاباً وإنما أفعل ذلك إستبشاراً بما نصير اليه! وتومض عيناه بنور عجيب وهي تسرح في الأفق البعيد الذي بدأ احمر متلألئاً يوشك أن يسفر عن وجه الشمس وأضاف: والله ما وإن نلقى هؤلاء القوم بأسيافنا نعالجهم بها ساعة ثم نعانق الحور العين.
لم يكن صرف كلام ذلك الذي سمعه الرجل ولامجرد لسان يصوغ محض ألفاظ بل هو مشهد سماوي أخضر رسمته بعناية ريشة فنان موهوب. وهل هناك اعظم من هذه اللوحة الفنية المذهلة، منظر الجنان بخضرتها النضرة، بأنهارها الرقراقة المنسابة بروعة، بحورها اللؤلؤيات يسن جمالاً وعذوبة ورقة، بنسماتها العابقة بشذى الزهور، بطيورها المغردة المزقزقة، هذا العالم البهيج اللامتناهي وهو يبدو من وراء الأشلاء المقطعة والدماء المطلولة، وهل هناك اعظم من هذه الروح التي تعبر كل تلك المسافات بأقل من لمحة بصر.
ولم يزد الرجل الذي أتعبه الجري في هذا العالم خلف صاحبه اذ قال: طوبى لك ياأخاه!!