البث المباشر

كتاب شفاعة

الثلاثاء 8 أكتوبر 2019 - 09:39 بتوقيت طهران

اذاعة طهران – قصص الصالحين : الحلقة : 30

 

إنحدرت الشمس للمغيب ومن بعيد ترآت المدينة لعيناه التي إضمرهم التعب وكأنها سحابة دكناء. شهور خمسة قضاهم ورفيقيه، جواده والطريق لم يجد فيها طعم الراحة إلا إختلاساً. تنفس الصعداء وهو يلمس شجيرات صغيرة تناثرن بغير إنتظام. آه اذن فقد بلغ الواحة، قال وهو يجيل بصره في السماء، لاشك أنه لم يبق الكثير على موعد الصلاة. أرخى جفنيه قليلاً يتذكر شيئاً ثم حلق كمن إعتزم أمراً وقال: ليكن! تقدم بإتجاه ساقية صغيرة هناك وتابع تقدمه حتى وقف على نبع صاف يضاهي البلور رقة وصفاءاً. احس بالفرحة تطغى عليه، ترجل عن جواده، مطى جسده المرهق. ها هو يعود لمدينته بعد عام، عام كامل! وأنا أجوب الفيافي بين الري ومكة.
إقتاد الجواد الى شجيرة قريبة وربطه وعاد يحرك ذراعيه كيفما إتفق كعصفور صغير يغادر عشه لأول مرة. شمّر الثوب عن ساقيه، خلع نعليه وجلس على حافة البئر تاركاً قدميه تنسابان في الماء البارد، ومع الرجفة الخفيفة التي سرت في أوصاله أحس بنشوة عذبة لكنها لم تدم طويلاً. داهمته هواجسه وهمومه، تلك الهواجس والهموم التي دفعته الى ركوب مشقة هذا السفر الطويل، ليته يرتاح منها ساعة واحدة، يستريح من هذا القلق المستمر، هذا الخوف الدائم، هذا العناء، العناء!
وألحت على ذهنه ذكرى، ذكرى اللحظة التي تلقى فيها نبأ تعيين الوالي الجديد على الري وهتف: ما أشأمها من ساعة!!
وراح يناجي نفسه بصوت مسموع: ماذا لو إطلع على سجلي؟ فهل يجد غير ضرائب متراكمة؟ وحدق في الماء بغضب ثم قال بحدة كما لو كان يخاطب أحداً: أينبغي لي الخضوع لإبتزاز الولاة الظلمة الذين يدأبون على مضاعفة الضرائب ليحملوا الناس معاناة الى معاناتهم وفقراً الى فقرهم؟ آه أطلق زفرة طويلة وعاد يقول: أينبغي لي أن أمد هؤلاء الظلمة بما يطيل في اعمارهم وبقاءهم ليطول بالتالي عذاب الناس وشقاءهم؟ ليطول هذا الليل البهيم؟ هذا الوباء الذي لايبقي ولايذر؟
وفجأة تحسس صدره بسرعة وإرتباك وتمتم: الحمد لله! تلفت حوله بإستغراب وهو يجد الليل يلف كل شيء!!
عشرات المرات طرح على نفسه سؤالاً واحداً، بيد أن عقله لم يسعفه بشيء. ما الذي سيواجهه بعد قليل. إستجمع شجاعته وتقدم من الباب وطرق.
أجابه صوت من داخل صدره بدقات قوية متناوبة، من وراء الباب الذي إنفرج قليلاً أطل غلام شديد الأدمة تبدو عليه ملامح القوة والفطنة.
السلام عليكم. أهذه دار الوالي؟ أحس أن سؤاله لامعنى له! وهل هناك من يجهل دار الوالي؟ لكنه مد عنقه متظاهراً بإنتظار الجواب.
وعليكم السلام ورحمة الله، اجل.
ونطقت عيناه بسؤال: قل له إن على الباب رسول الامام الكاظم.
أشرق وجه الغلام بإبتسامة عجيبة وإنقلب الى داخل الدار عدواً
لماذا إبتسم؟ هل انني أخطأت التعبير؟ لاأبداً، ولكن؟ أجل أجل لابد أنه عرفني؟ لابد أنه قال مع نفسه هذه بغية الوالي منذ عام سعت اليه بقدميها؟ أجل أجل انني أصبحت مطارداً مطلوباً للعدالة.
إقترب منه وقع أقدام مسرعة، إنفتح الباب بقوة. رجل مهيب بادي التوتر حاسر الرأس، عليه ثوب أبيض طويل. لايراوده الشك أنه الوالي بعينه. بادره السلام.
وعليك السلام ياسيدي.
جاء الجواب خلافاً لما توقعه تماماً!
هل أنك رسول الامام؟
تابع الرجل بتواضع جم: ياسيدي؟ أحقاً يقول الرجل أم أنه يسخر مني؟ لا لا إن عينيه صادقتان، ماذا يجيب؟
أجل أنا هو!!
ردّ الرجل وقد تهللت أساريره: حللت اهلاً ونزلت سهلاً. ومد اليه يديه وإحتضنه ثم قاده الى داخل الدار وقال بلهفة: ها كيف تركت الامام؟ هل هو بخير؟
أجل أجل بخير بأتم الخير!
حمداً لله حمداً لله. وهل حظيت بزيارته؟
نعم لقد تشرفت بلقاءه في مكة.
ها أحقاً تقول؟ أجل والله بوركت! وطوبى لك!
عاد الوالي يسأل بعد أن أخذا مجالسهما وكأنه يحاول تمثل الموقف كاملاً: قلت إنه عليه السلام بخير وعافية وتمكن من اداء المناسك كاملة؟ وواصل دون أن يتيح لصاحبه فرصة الرد: حدثني بالله عليك كيف كنتم مع الامام؟ وكيف قضيتم فترة الحج؟
الحقيقة أني قصدت الامام لأمر أهمني فقيل لي أنه قصد مكة المكرمة وهكذا شددت الرجال الى مكة. كنت احدث نفسي أني سأجهد في البحث قبل أن أصل اليه وسط الزحام الشديد ذاك!
ولكني لمحته ولما أدخل بعد، رأيته يشق طريقه بين الجموع يسعى نوره بين يديه وكان الناس ينظرون الى وجهه المشرق الوضاء وينفرجون له سماطين!
وفي فراغ من عبادته كان معنا كأحدنا يصغي الينا اذا حدثناه ويقبل الينا اذا حدثنا، يوزع بيننا نظراته الحنونة المفعمة بالود!
أنصت الوالي كالحالم، كمن يتملى مشهداً مؤثراً وقد بللت اهدابه الدموع وكالمستغرق في نوم عميق إنتبه مبدياً رد فعل سريع وهو يرى صاحبه يمد يده الى صدره ويقول: وقد حملني كتاباً اليك!!
إنفرجت شفتاه، إتسعت حدقتا عينيه وإمتدت يداه بشكل لاإرادي لتخطف الرسالة! ثم كمن إستعاد وعيه رفع الرسالة ولثمها مرة وثانية وثالثة ثم أبعدها قليلاً وراح يتأملها. ومع حركة يديه المرتبكة لفض الرسالة إنهمرت دموعه بغزارة. ركضت عيونه على السطور تحاول إستباق الألفاظ وبلوغ معانيها دفعة واحدة، قرأها مرة واحدة. ألقى نظرة خاطفة مفعمة بالحبور على صاحبه وعاد يقرأ مستئنياً.
نهض ذرع الغرفة طولاً وعرضاً ثم توقفف وقرأ بصوت مسموع: بسم الله الرحمن الرحيم إعلم أن لله تحت عرشه ظلاً لايسكنه إلا من أسدى الى أخيه معروفاً او نفس عنه كربة او أدخل على قلبه سروراً وهذا أخوك والسلام.
كان فارسان يمتطيان جواديهما وكأنهما في نزهة شائقة ورغم أن الوقت قد قارب الضحى إلا أن الحديث لازال متصلاً بينهما منذ أن إعتليا صهوتي جواديهما مع إشراقة الشمس.
قال الأول وفي كلامه رنة عتاب تنبأ على دالة كبيره له على صاحبه: ولكنك لم تحدثني بذلك؟
ها أنا أحدثك!! ردّ الثاني وهو يبتسم.
أجاد أنت أم هازل؟
لا وربي جاد كل الجد!
بشرك الله بخير. لا والله بالخير كله!! ولكن أكان إسمينا الوحيدان اللذين أسقطهما الوالي من ديوانه؟
كلا كلا بل أسماء كثيرة، أسقطها وأعفى أهلها من الضرائب!
ولكن كيف أسقط كل تلك الأسماء؟
لقد قال لي إنه أدوا الحقوق الشرعية لمستحقيها متجاهلين اوامر السلطة الظالمة ووعيدها.
غريب ولكنه أحد أعضاء هذه السلطة شاء أم أبى؟
كنت سألمحه له بمثل هذا لو لم يبادرني والألم باد على محياه قائلاً: أظننت أني أقبل بتسلم هذا المنصب لولا توجيه الامام عليه السلام؟ وأطلق زفرة عميقة ثم أردف: أنه أمرني بالسعي لرفع الحيف عن المظلومين ورفد المحرومين ونصرة المستضعفين. وهزّ رأسه رفضاً ثم أضاف: لولا ذلك لما وجدتني هنا لحظة واحدة!!
هذا امر لم يخطر لي على بال، ها جميل منه ذاك!! ولكن اين دنياه ياترى من دنيا المظلومين؟
ما تقول ياصاحبي؟ إنك لم تعرف كل شيء بعد، لم تعرف كل شيء عن الرجل!!
لو حدثتك بكل ماجرى لي معه لتولاك العجب العجاب!
ماذا بعد اذن؟
بعدما إنتهى الوالي من امر ديوان الخراج حمل بنفسه كيساً وأفرغه بين يدي. مسكوكات ذهبية تخطف الأبصار! قلت: لاياسيدي حسبي ما أسديت إليّ من معروف!
لاياأخي، لقد أمرني الامام أن أسرك! إنك أخي في الله، ألا تريد ليّ الفوز برضاه؟
قبلت منه على إستحياء وحاولت الإنصراف إلا أنه أجلسني وزاد فيما أعطانيه. ولاأطيل عليك فقد غادرت بيت الوالي وقد خشيت على جوادي الهلاك من ثقل ما حملته!!
الحق الحق أن ماسمعته لهو الغاية في الغرابة!!
والأغرب من ذلك بركة كتاب الامام. لقد كنت أتوقع كل شيء إلا ذلك.
وإنقطع الحديث بين الرجلين للحظات غير أن الرجل الأول سأل: ترى ما الذي دعاك للسفر من جديد وها انت لم تلقي عصى السفر بعد؟
أنني والله أروم الحج.
ولكنك عائد منذ شهور قليلة من مكة؟
أجل ولكني أنوي لقاء الامام وتسديد بعض الديون.
ها أعليك ديون في مكة؟
كلا!!
لم أعد أفهم!
لقد فكرت طويلاً فوجدت أفضل ما يمكن تقديمه للوالي جزاء أياديه البيضاء عليّ هو أن أهدي له ثواب حج البيت.
آهههه ياحبذا ياحبذا، ليوفقك الله ويكلأك برعايته.
زاد الله في فضلك ياأخي. قال ذلك ثم تطلع الى السماء وقال: أرى الظهيرة تداركتنا فهل أسرعنا حتى نلتجأ الى ظل ظليل ليقينا حر الهاجرة. وهمز جواده وهو يحث صاحبه على الاسراع فإنطلق الجوادان خبباً تقرع حوافرهما الأرض بقوة.

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة