البث المباشر

الهم الكبير

الثلاثاء 8 أكتوبر 2019 - 09:36 بتوقيت طهران

اذاعة طهران – قصص الصالحين : الحلقة : 29

 

أنهى الوزير قراءة تقريره، تقدم بخطوات متأدة من مجلس الخليفة ومدّ اليه كلتا يديه بورقة ملفوفة بعناية. بدا الخليفة وكأنه يخوض لجة عميقة من الأفكار، رفع رأسه متنبئاً أخيراً لليدين الممدودتين وتناول الملف وبحركة تنم عن الكسل وعدم الاهتمام فضه ملقياً نظرة عابرة على سطوره، وسرعان ما تعلقت عيناه بأعلى الورقة وكأنها إنشدت اليها بوثاق غير مرئي. إتكأ الخليفة على مرفقه الأيمن وعلائم التفكير والحيرة بادية على محياه، حالة من الدهشة والاستغراب إستبدت بالوزير فراح يخالص الخليفة النظر دون أن يجرأ على السؤال او التفوه بشيء. إستغرق الأمر على ذهن الخليفة فرفع رأسه وسأل مشيراً الى أعلى الورقة: ماهذه العلامة التي اجدها على تقريرك أيها الوزير؟
نظر الوزير حيث أشار الخليفة وهو يدنو اكثر فأكثر وقال: لا اعرف يامولاي!!
لاتعرف؟
عاد الوزير ينظر للعلامة وكأنه سيكتشف فيها شيئاً جديداً وقال: كلا كلا ياسيدي!
سدد الخليفة وزيره نظرة وشت عن عدم رضاه ثم نادى: أيها الحاجب، أيها الحاجب!
مولاي!
قل لي أتعرف ماتعني هذه العلامة؟
تناول الحاجب الورقة وحدق فيها طويلاً ثم قال: رعا الله امير المؤمنين لو أذنت بإحضار من يحسن اللغة الرومية فأني أجد خطوطها شبيهة بالحروف الرومية.
إستحسن الخليفة الفكرة وقال: اذن أبعث من يحضره لنا على وجه السرعةز
سمعاً وطاعة يامولاي.
ردّ الحاجب وتراجع الى الخلف خطوات ثم إنسحب بهدوء.
ساد الهدوء وبدا الجو داخل القاعة الكبيرة حاراً خانقاً يقطع الأنفاس. رفع الوزير رأسه بحذر ونظر الى الخليفة. عينا الخليفة تحلقان كما كانتا في الورقة. أطرق من جديد منكمشاً على نفسه وكأنه فأرة تربص بها قط، لعن في سره الحظ لأن يكون وزيراً لعبد الملك بن مروان!
ومن بعيد اخذ وقع أقدام مسرعة يعكر الهدوء ويثير آلاف الإحتمالات المخيفة في رأس الوزير المكدود.
دخل الحاجب عجلاً ثم إنحنى امام الخليفة: لقد أحضرت الرجل الذي أردت يامولاي.
فليدخل! قال الخليفة ذلك ثم إعتدل في جلسته.
أقبل رجل بخطوات يشلها الإرتباك ووقف منحنياً أمام الخليفة فخاطبه الخليفة بالقول: اذا كنت تجيد الرومية فأخبرني ما معنى هذه العلامة؟ ودفع اليه بالورقة.
تطلع الرجل في الورقة بعينين يطل منهما الفزع وقال بسرعة غير متوقعة: ها إنه شعار النصارى يامولاي.
تفاجئ الخليفة او هكذا بدا وصرخ: ماذا؟ أمتأكد أنت؟
نعم يامولاي.
إلتفت الخليفة الى وزيره وقال: ما معنى هذا أيها الوزير؟
إبتلع الوزير ريقه وأجاب بصعوبة ظاهرة: لاأدري! لم أكن أعرف بذلك يامولاي. وأضاف بصوت متهدج: ماذنبي أنا ياأمير المؤمنين اذا كانت هذه العلامة مطرزة على القراطيس التي تباع في أسواقنا.
المترجم الذي ظل مطرقاً حتى تلك اللحظة رفع رأسه كمن دبت فيه الحياة وقال: أصلح الله مولاي الخليفة اذا أذن لي قلت ما اعرفه بهذا الشأن!!
هزّ الخليفة رأسه موافقاً بعد أن ألقى عليه نظرة شاملة مستخفة. تكلم الرجل كما لو كان يعرض قصة لها شأن كبير في حساب الزمن قائلاً: منذ سنين عديدة يامولاي مذ كان التجار يبتاعون هذه القراطيس من بلاد الروم وهذا الشعار عليها وبعد أن نقل الأقباط هذه الصناعة الى مصر فإنهم نسجوا على منوالهم وراحوا يطرزون قراطيسهم بالشعار نفسه ويبيعونها في أسواق المسلمين. إن ما قاله الوزير يامولاي حق فليس هناك قرطاس في أسواقنا يخلو اليوم من هذا الشعار.
وما إن إنتهى المترجم من حديثه حتى سكن غضب الخليفة وكأنه تناول جرعة دواء مهدأ ثم اطرق مفكراً وما لبث أن إعتدل في جلسته ونادى على القلم والدواة وتناول قرطاساً وراح يكتب.
شعر عبد العزيز بن مروان أخو لخليفة وعامله على مصر بحرج المهمة التي كلف بها وثقلها. وحاول أن يوهم نفسه فعاد يقرأ كتاب الخليفة من جديد لكنه رجع بعد نظرة متأنية على سطور الكتاب القليلة ليجزم أنه لابد من المضي في إنجاز المهمة فأوامر الخليفة تقضي بسحب جميع الورق المعروض للبيع في السوق ومن ثم إلزام العاملين بصناعته بتزيين قراطيسهم بسورة التوحيد وجملة شهد الله أنه لاإله إلا هو بدلاً من الشعار الذي كانوا يضعونه عليها، كما يتوعد الكتاب بمعاقبة كل من يبيع القراطيس الرومية او يتداولها. وهكذا فقد أثار قرار الخليفة الذي عمم على مختلف الولايات الاسلامية لوناً من الدعاية لصالحه خصوصاً وأن تنفيذه تم بطريقة فيها من الرنين والبريق الشيء الكثير فالولاة والقائمون بأمر الحكومة والمنتفعون يدأبون من أجل خلق إنطباع لدى عامة الناس من أن القرار ذاك نابع من حرص الخليفة على أمور الدين ومقدسات المسلمين.
فوجأت الشام صبيحة أحد الأيام بنزول نفر عليهم لباس غريب وتداول الناس الحديث في شأنهم، ترى من يكونوا هؤلاء القوم؟؟ ومن اين أتوا؟
قال تاجر وكان كثير الأسفار: هذا لباس أهل الروم، انا أعرفه، والذي أعتقده أنهم من رجال القيصر!
ويستمر موكب الغرباء في السير.
مولاي على الباب رجال يقولون إنهم رسل قيصر الروم!!
ألقى عبد الملك نظرة جامدة على حاجبه وقال: دعهم يدخلوا!
من قيصر الروم الى خليفة المسلمين أما بعد فإن عمل القراطيس بمصر للروم ولم يزل مطرز بطراز الروم حتى أبطلته فإن كان من تقدمك من الخلفاء قد أصاب فقد اخطأت وإن كنت قد أصبت فقد أخطأوا فإختر من هاتين الحالتين أيهما شئت وأحببت. وقد بعثت اليك بهدية وأحببت أن تجعل رد ذلك الطراز الى ما كان عليه حاجة أشكرك عليها.
نظر الخليفة الى حاجبه بوجه مكفهر وقال: رد هديتهم اليهم وقل لهم لاجواب لكم عندنا.
ويعود وفد القيصر ويأتي وفد آخر وتتعاقب الوفود على الشام حاملة الكتب والهدايا وداعية الى إعادة الشعار النصراني الى القراطيس ومحو الشعار الاسلامي، وكلها تواجه الرفض والخيبة.
ويتحدث قصر الخليفة في احد الأيام عن وصول وفد رومي جديد وينشغل القصر خلافاً للمرات السابقة بالزيارة الجديدة.
إنفرد الخليفة بنفسه بعد أن صرف جميع مقربيه وأفراد حاشيته وجلس مطرقاً تتصارع في رأسه الأفكار. ترى ماذا يعمل؟ أيخضع لهذا التحدي؟ ولكن كيف سيكون موقفه أمام الناس وأعداءه؟ وهل يمكنه حينئذ تحمل ثقل الهزيمة الباهض؟
وتشتد الحيرة والغضب بعبد ملك بن مروان فيصرخ: أشأم مولود ولد في الاسلام ويضيق بنفسه وعجزه فينادي الحاجب أن يدعو له العلماء والحكماء واصحاب الرأي. ويلتأم الاجتماع ويقف الخليفة معلناً سبب هذه الدعوة فيقول: إن قيصر الروم تهددنا من أنه سيضرب دراهم ودنانير جديدة ينقش عليها عبارات في شتم نبينا، اذا لم ننزل عند ارادته بإعادة شعار النصارى الى ماكان عليه. ويتوقف الخليفة عن الكلام مجيلاً الطرف في الحاضرين ثم يتابع: فما الرأي وأنتم ترون جميع المعاملات تجري بين الناس بدراهم الروم ودنانيرهم؟؟
ويمتد الاجتماع يطول الحديث ويسري السأم بين الحاضرين ولا من نتيجة تذكر. ويتقدم أحد الجلوس وكان جريئاً لأن يهمس في أذن الخليفة: أنك لتعلم الرأي والمخرج من هذا الأمر ولكنك تتعمد تركه، ويحك أنت! الباقر من آل محمد!!
سكت عبد الملك قليلاً قبل أن يجيب: صدقت. ولكن إرتج الرأي عليّ فيه!
شهد قصر الخلافة إستعدادات خاصة وردد بعض رجالات القصر تساؤلات: ترى هل نحن على موعد مع وفد رومي جديد؟؟ ويتواصل الهمس في زوايا القصر عن الشخصية التي يستعد الخليفة لإستقبالها. وتوقف الهمس وإنشدت الأنظار الى رجل دخل على حين غرة وشق طريقه الى بهو الخليفة غير هياب ولاوجل، ولم يملك الحرس وافراد الحاشية الذين إصطفوا على جانبي الطريق إلا أن ينحنو له إحتراماً ويسارعوا في إفساح الطريق امامه.
بدت في لهجة الخليفة الذي تخفف من زيه الرسمي رنة إنكسار واضحة وهو يقول: علمت يابن رسول الله ما طرقنا، لايعظمن هذا عليك! فإنه ليس بشيء.
أجابه الرجل بوقار.
مال احد الجالسين في ركن القاعة الى صاحبه وسأله بهمس: من الرجل؟
وهل يجهل مثله؟ رد الرجل بإنكار وإستطرد قائلاً: إنه محمد بن علي الباقر، الرجل الذي إنتهت اليه زعامة البيت النبوي. اما سمعت كيف يخاطب الخليفة؟ ههه اذا كنت تستعظم مثل هذا الأمر الصغير فكيف بالكبير؟
أجل أجل كمن يقل له ليس هذا بعشك فأدرجي!
عاد عبد الملك ليقول بتأمل: وما الحيلة في ذلك يا أبا جعفر؟ تدعو بصناع فيضربون سككاً للدراهم والدنانير وتجعل النقش عليه سورة التوحيد وذكر رسول الله صلى الله عليه وآله.
إستمع الخليفة مبهوتاً للإمام وهو يحدثه عن تفاصيل خطته لمواجهة التحدي الرومي، الخطة التي عبرت بالبلاد الاسلامية آنذاك أخطر منعطف سياسي واجهته وأنقلتها من الإرتهان الاقتصادي والسياسي للدولة الرومية.

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة