خلاصة القسم الأول
رغم الشوط الطويل الذي طوته قدماه بين نينوى والبحر الأحمر فقد بقيت ساحة المعركة التي يعيشها في داخله ويكتوي بلظاها ساخنة بل ومتوقدة. اجل لم يبق له إلا البحر، ليس غيره بقادر على إخماد هذه النار المستعرة، إنه يريد ركوب البحر وليكن من أمره ما يكن! ها هو ذا هدير الموج يصك أذنيه وكأنه بركان ثائر يلقي بوجه قاصديه رسائل الإنذار والوعيد. ليس عليه إلا قطع هذه المسافة القصيرة ليصل تلك السفينة الراسية ويركب وينقطع عن عالمه، عن هذا الدوي المتصل الذي يضج به رأسه. وتطلعت العيون للراكب الجديد، وجه ينم عن قدر كبير من الوقار وقوة الشخصية والارادة.
أجل إنه نبي الله يونس الذي حمل لأهل نينوى رسالة السماء بيد أنهم قابلوه بالجحود والإنكار فوقف يحذرهم العقاب الإلهي ويشير الى عقارب الزمن التي تأتي على الأجل المضروب الى ثلاثة أيام لامحالة مالم يأخذوا بطريق العودة ويتوبوا الى الله.
إني نظرت في أمر هذا الرجل فلم أر له كذباً في قول ولاخطأ في رأي!!
أجل والله إننا لم نجرب عليه كلمة!
ولذلك أني متوجس خوفاً من تحذيره!
"إننا جميعاً وجلون"!!
اذن لنرقبه اللية فإن بات فينا فليس بشيء وإن لم يبت فأعلموا أن العذاب مصبحكم!!
ولكن العيون التي إنبثت حول بيت يونس عليه السلام لم تستطع رؤيته وهو يتسلل في الظلام تاركاً أهل نينوى يغطون في نومهم آمنين.
وهكذا إنتهت به رحلته الطويلة الى ركوب سفينة مبحرة. وينشد الرجل الى مكانه في السفينة لايغادر كأنه يعيش عالماً آخر تماماً، إغراق في التفكير والتأمل، حزن مقيم لايعرف له سبباً. وليس رفاق السفر وحدهم الذين تسائلوا الى متى سيبقى الرجل حزيناً أسفاً موصداً أبواب عالمه الخاص؟ بل هو ذاته الذي سأل: "كيف آسى على قوم كافرين"؟ ولكن أليس فيهم روبيل ذلك العالم الحليم، لم يغادر القرية. ولم؟ ألا يريد النجاة بنفسه من العذاب المحيق؟ أجل لقد بقي روبيل في القرية ليجد فيه أهل نينوى الدليل على الطريق والملجأ الذي يفزعون اليه وهم يرون شارات العذاب!!
ماذا؟
لاشيء أنه سحاب!
وأي سحاب في هذا اليوم القائض ياأحمق؟
كانت هناك غيمة سوداء مذلهمة تتحرك بسرعة عجيبة نافخة دخان غليظاً مرعباً!!
وأيقن الناس نزول العذاب فهرعوا الى بيت يونس صارخين فلم يطالعهم غير وجه الصمت الكالح الكئيب. وكاد مارد اليأس أن يفتك بهم لولا أن يبلغ آذانهم نداء شيخ مسن: إستمعوا للعالم روبيل!
وقف روبيل امام الجمع الباحث عن ملاذ مشيراً الى بداية الطريق. أجل كان روبيل هناك غير أن يونس ظل يتسائل في نفسه عن جدوى وجوده في القرية التي أحدق بها العذاب. وفجأة تهتز السفينة هزة عنيفة قطعت عليه سلسلة أفكاره. يقف الناس فزعين يتراكض الملاحون هنا وهناك ثم يقف الجميع ذاهلاً بهذه المفاجأة المروعة: حوت حوت!!
كان الحوت يقف أمام السفينة فاغراًً فاه كأنه يستعد لإلتهام طعمة. ويرتفع صوت كبير الملاحين: لابد أن نقترع ومن أصابته القرعة ألقيناه في البحر!!
القسم الثاني
وأدت كلمات البحار تلك روح الأمل التي رفرفت قليلاً حول القلوب وتجسم الموت شبحاً أسطورياً مرعباً يمد أذرعه اللانهائية السوداء بإتجاه الجميع، الكل مرشح للموت والجميع فرداً فرداً طعام طازج، لقمة سائغة لهذا الوحش الرهيب. وتمشت موجة الرعب في الدماء، في العروق، في المفاصل ثم تخاذلت الأطراف وإرتجفت كأوراق نبتة صغيرة راحت ترتعش بفعل رياح الخريف.
أما الرجل ذاك فقد شوهد لأول مرة واقفاً وقد تملكه الخوف. كانت العيون تسبح مبشرة الى حيث يطفو ذلك الوحش البحري الهائل، الجميع ينظر الى الأسفل، الى مصدر الخطر إلا هو فقد كانت عيناه تسبحان في الفضاء العريض، يرمي ببصره الى الأعلى، الى جهة لانهائية، جهة غير محدودة. ينظر الى السماء وتخظل أهداف عينيه بالدموع وهو يتمتم "لاإله إلا انت سبحانك إني كنت من الظالمين" إلهي إن لم يكن بك عليّ غضب فلاأبالي!!
شرع البحار بعملية القرعة وهو يصرخ وكأنه احد زبانية العناء: إنها هنا أبداً عاصية آبقة!!
وتعلقت العيون بيدي البحار وإحتبست الأنفاس في الصدور ودقت القلوب كدقات طبول تخبط عليها أيادي مخبولة وإستطالت الدقائق حتى عادت كسنين متمادية. وأخيراً رفع الرجل رأسه وراح يجيل نظره في الركاب ثم توقف عند شخص بعينه، وقبل أن يفوه البحار بشيء تحرك الشخص ذاك بخطوات واثقة وتقدم من مقدمة السفينة بعزم وشجاعة عجيبين، توقف، ألقى نظرة وداع معبرة على رفاق سفره ثم اطلق نداءاً مروعاً بأعلى صوته: أنا العبد الأبه! وسرعان ما إختفى عن العيون المتطلعة اليه بخوف وحزن وذهول. ولم يكن لديهم غير صرخات الألم والتوجع يطلقونها وهم يرون الحوت يغوص برفيقهم الى الأعماق!!
وتنفس الركاب الصعداء اذ تيقنوا زوال الخطر المحدق بهم إلا أن مسحة من الألم لم تفارق ملامحهم وهمس احدهم لرفيقه: ياليت أن القرعة لم تصب سهم ذلك الرجل الصالح.
ردّ الآخر وعلى قسماته تلوح موجة ألم: أجل والله، ياليتها كانت من نصيب غيره!
ونظر أحدهما الى الآخر نظرة قلق ثم قال الثاني: ولكن ما معنى الكلام الذي فاه به آنفاً ياترى؟
عندما تغمر الأرض بركات السماء فتهبها حباتها اللؤلؤية الصافية تعود الحياة الى العود الأجرد اليابس فيخضر ويورق وتزف أوراقه حفيفاً رقيقاً كهمسات غادة خفرة ليلة زفافها وعندما تنساب نسائم الرحمة الإلهية يمتلأ صدر الخلق بعبير الحياة ويزدان الكون بكل جميل وزاهي ومحبب. وعندما توهب الحياة لمن أوشك على وداعها فذلك خلق آخر.
اجل هكذا عاد قوم يونس الى منازلهم وقد احسوا أنهم منحوا حياة جديدة، أعماراً جديدة. وفاضت الألسن بالشكر ومن احق بالشكر والحمد غير واهب الحياة!
أجل هاهي بداية الطريق ولكن من ذا الذي سيكون دليلاً عليه؟ من ذا الذي سيضمن لهم السير عليه الى النهاية؟ لقد كان يونس وذهب "ذهب معاضباً" فهل له من عودة ياترى؟؟ ذلك يبدو حلماً بعيداً بعيداً.
أية رحلة بحرية قام بها هذا الرجل؟ وأي سفينة بحرية حملته عبر البحار لتلقي به على بر الأمان ياترى؟ ولماذا حملت هذه السفينة راكبها الوحيد في جوفها وليس على ظهرها كما هي العادة في ركوب السفن؟ أي نوع من الغواصات التي عافها التاريخ في مستقبل أشواطه ومراحله؟ أياً كان الجواب فما لهذا الرجل ملقى على الساحل لايقوى على النهوض كأنه فراخ صغيرة لم ينبت ريشها بعد!
ماذا؟ أهو عناء السفر؟ أم أنه مرّ بتجربة صعبة وظروف قاسية؟
وشيئاً فشيئاً يسعى الرجل بأن يقف على قدميه والنهوض بنفسه. وعندما إستوى واقفاً مثلت الأعجوبة العصية عن التصديق، إنه يونس!! يونس النبي!! لكن يونس إلتقمه الحوت؟ هوى به الى أعماق سحيقة. اذن كيف؟؟
كيف أفلت من فكي ذلك الوحش المخيف؟
كان الرجل ينقل خطواته بوهن وإعياء وشفتاه لاتفتئان تتمتمان بحمد الله والثناء عليه. وإنطوت مسافات ومسافات ولسانه لايمل هذه الأنشودة الروحية العذبة. ومن بعيد بدا له قطيع من الأغنام، توقف قليلاً يستمتع بمرئى الحقول، بروعة الطبيعة التي غابت عنه او غاب عنها وكأنه عينيه لم تقع على مشهد كذاك من قبل. على بساط من الثيل الأخضر بصر بفتى جالس وسط شياهه فإقترب منه محيياً ثم سأل: من أنت؟
إستغرب الفتى، من هذا الرجل الذي إنشقت عنه الأرض فجأة؟؟
أجابه وفي صوته رنة خوف: من قوم يونس!!
ظل الرجل يتطلع اليه بلطف ثم قال: اذا رجعت اليهم فأخبرهم أنك لقيت يونس.
حدق الفتى غير قليل في وجه محدثه ثم إنطلق يعدو بإتجاه القرية تدفعه موجة فرح غامر.