البث المباشر

طريق العودة ۱

الثلاثاء 8 أكتوبر 2019 - 09:14 بتوقيت طهران

اذاعة طهران – قصص الصالحين : الحلقة : 27

 

وجهه ينم عن قدر كبير من الوقار وقوة الشخصية والارادة لكن النظر اليه يحس ومن اول نظرة أن حرباً طاحنة تدور على أشدها في داخله، حرباً تتخذ من نفسه مسرحاً ومن عقله وارادته ويقينه الكبير وعواطفه ومشاعره وأحاسيسه جيوشاً وعدة لها. ولم تخمد نار هذه الحرب ولاخفّ أوارها ولم تمل جيوشها الحرب ولاجنحت للسلم رغم طول المسافة التي قطعها فأين نينوى من ارض الموصل واين بحر القلزم البحر الأحمر. أجل أنه ليس غير البحر بقادر على إطفاء هذه النار. أجل البحر، أنه يريد ركوب البحر ولكن من أمره مايكن ولكن لايجد السفينة التي ستحمله أم سيكون مضطراً للإنتظار وتحمل المعاناة.
كان هدير الأمواج يصل من بعيد كأنه بركان ثائر يلقي بوجه قاصديه رسائل الإنذار والوعيد. راحت عيناه تمسحان الشاطئ البعيد من شماله الى جنوبه ترنوان الى عرض البحر ثم تعودان سابحتين الى الشاطئ من جديد. وكان ظاناً أنه وجد ضالته، توقف قليلاً وقد تسمرت عيناه حول نقطة معينة ثم عاود المسير وهو يأد إبتسامة فرح كادت تتسلق محياه.
وبدا البحر شيئاً فشيئاً شريطاً فضياً رفيعاً لامعاً كما لو أنه نصل حاد يبرق تحت أشعة الشمس. وظل الرجل يسير ويسير بإندفاع وحماس غريبين، يفر، يهرب، يريد أن يذهب بعيداً بعيداً، ليس عليه إلا قطع هذه المسافة المتبقية. كم هي؟ ألفان؟ ثلاثة آلاف ذراع؟ ليصل تلك السفينة الراسية ويركب ويحس بالانفصال، بالإنقطاع عن هذا الدوي المتصل الذي يضج به رأسه. نسى الرجل او تناسى أنه سيرافق البحر بأمواجه الهادرة مدة قد تطول كثيراً.
كان الملاحون على وشك الإبحار بسفينتهم عندما شاهدوا رجلاً مقبلاً يشتد في سيره ولعلهم هموا بالإبحار وتركه على اليابسة لولا يروا في وجهه تلك الهالة النورانية المشرقة.
المشكلة الرئيسة التي واجهت الرسالات السماوية على امتداد تاريخها الطويل على الأرض هي الإنغلاق والتحجر، مشكلة وضع الأصابع في الآذان وإغلاق منافذ السمع والتلقي وبالتالي منافذ الوعي والتفكير. وليس هذا وحسب بل سرعان ما يتطور الموقف فتحتقن الكلمات وتتشنج الأعصاب وترفع أصابع الإعتراض والإحتجاج بل وتشهر شراب العداء. ولانجد في التاريخ أمثلة متعددة للقرى التي جاءتها الرسالات والأقوام التي بعث فيهم الأنبياء ينكرون دعوة السماء ثم لم يرفعوا ضدها لواء الحرب والعصيان غير قوم يونس عليه السلام فقد أبوا على نبيهم اذا دعاهم الى الله والى قبول رسالته المنجية فحذرهم العذاب الإلهي وأنه مصبحهم الى ثلاثة أيام مالم يتوبوا الى ربهم. وهنا إتسم موقفهم بالحكمة والتعقل اذ لم يجادلوا النبي ولم يلجأوا كعادة ذوي الجهل والخفة الى أساليب الهزو والسخرية بل خلصوا نجياً وبدأوا يتشاورون بشأن التحذير ذاك.
إسمعوا أيها الرجال ما من رأي ليس فيه للعقل سهم وافر إلا كان وبالاً على صاحبه وكل أمر لم تسهم الأناة في إبرامه وعقده فذاك الى الإنتقاض والإنفصام.
صدقت، الحق فيما تقول.
إنني نظرت في امر هذا الرجل فلم أر له كذباً في قول ولاخطأ في رأي!
أجل والله إننا لم نجرب عليه كذباً!
لذلك ولاأخفيكم أنني متوجس خوفاً من عاقبة إنذاره.
"إننا جميعاً وجلون"
اذن ما دمنا على رأي واحد فلنرقبه، نرقبه تلك الليلة التي وعد بها فإن بات فينا فليس بشيء وإن لم يبت فإعلموا أن العذاب مصبحكم.
وهو كذلك!
أجل أجل والله
نعم الرأي ما رأيت!!
جرت السفينة بركابها بريح طيبة وعلى ظهرها المشحون بالبضائع تنقل الركاب هنا وهناك وهم يتبادلون الأحاديث وحكايات السفر، اما ذلك الراكب لم يغادر ركنه القصي منذ صعد على ظهر السفينة إلا مرات معدودة وكأنه يعيش عاماً آخر تماماً، عاماً له همومه وتطلعاته ومصيره الخاص به. إغراق في التفكير والتأمل، حزن مقيم لايعرف له من سبب والعجب من ذلك شخصية نافذة تفرض إحترامها بقوة وتشد الآخرين اليها من حيث أريدوا او لايريدوا. وليس الآخرون وحدهم الذين يتسائلون الى متى سيبقى الرجل حزيناً أسفاً موصداً أبواب عالمه الخاص، لايغادره هنيهة بل أنه هو ذاته الذي سأل نفسه مرات عدة: كيف آسى على قوم كافرين؟ ولكن أليس فيهم روبيل ذلك العالم الحميد؟
لم يغادر القرية، ولم؟ ألا يريد النجاة بنفسه من العذاب المحيط. لم يخرج صاحبه العابد أمليخا، إنه يعرف روبيل، لايريد أن يقول إنه يحب المخالفة والعناد لكنه على أي حال ولاينصاع ببساطة. ألم يحاول روبيل ثنيه عن عزمه كلما فكر بفغر فاه على قومه والدعاء عليهم إستنزال العذاب الإلهي؟ كان يقول بتوسل: لاتدعو عليهم فإن الله تعالى يستجيب لك ولايحب هلاك عباده!!
أيمكن ذلك؟ أيكذبون دعوة الحق لما جاءتهم ويفسدون عليه رأيه ويخذلونه ثم لايستحقون العذاب والتنكيل؟ ينذرون هكذا دونما رادع؟؟
إهتزت السفينة بشدة ونهض الناس قياماً وتراكض الملاحون هنا وهناك مستظلين الخبر إلا أن هناك لايكن أي أثر يدل على وجود خطر ما، ليس غير موجة صغيرة سرعان ما تلاشت لدى مرور السفينة.
إستولى الذهول على الجميع للحظات فقد كان البحر هادئاً والرياح رخاءاً فكيف إهتزت السفينة بكل هذه الشدة؟ ترى هل إصطدمت بصخرة من الصخور؟ ولكن ليس هناك من صخرة! وشيئاً فشيئاً عاد الركاب الى اماكنهم إلا أن مشاعر القلق والخوف لم تفارقهم!!
أمضت نينوى ليلة هادئة فالعيون التي بثتها حول بيت يونس أشاعت اجواء الأمان من خلال تأكيدها أنه عليه السلام لايزال في بيته ولم يغادره. ومع شروق الشمس استقيظت المدينة من رقدتها ودبت الحياة في كل شيء والطيور تزقزق في أعشاشها. الرجال يخرجون لمزاولة اعمالهم، قطعان الماشية تسرح في مراعيها وإستوت شفاه البعض وهم يرقبون الشمس التي راحت ترتفع في الأفق رويداً رويداً وتوقفوا يمسحون العرق عن جباههم ويثرثرون: ترى كيف أصبح حديث العذاب الذي يبشر به يونس؟
هذه الحياة جارية كما هي منذ الأزل!
وهاهي الشمس!!
ماتت الكلمات على الألسن، ماهذا؟؟
أترون؟
لاشيء إنه سحاب.
وأي سحاب في هذا اليوم القائض يا أحمق؟؟
كانت هناك غيمة سوداء هائلة تتحرك بسرعة عجيبة وهي تبعث بدخان شديد مرعب، وسرعان ما مدت أذرعها الأخطبوطية في كل اتجاه فاغرة فمها الحالك الظلام كأنها هوة سحيقة لاقاع لها!!
وخيم الظلام من جديد وسرى الرعب في الدماء وتعالت صيحات الخوف والفزع وركض الناس بكل اتجاه حيارى لايعلمون ما يصنعون. وإنطلقت صرخة قوية تقول: الى بيت يونس، الى بيت يونس!
إندفعت الجموع لاتنوي على شيء، حتى اذا ما وصلت لم تجد ليونس من أثر. فوقت لاهثة مشلولة العقل مسلوبة الارادة. وبان اليأس والتخاذل في العيون الذابلة المنكسرة. ونادى شيخ مسن: ألا فإقصدوا العالم روبيل!
وهدرت الجموع بإسم روبيل وإندفعت راكضة. وأشرف روبيل على الجمع ذاك وراح يجيل فيهم نظراته الحالية. نادى احدهم بجزع: لقد نزل بنا العذاب فماذا ترى؟؟
أطرق الرجل قليلاً ثم رفع رأسه وقد إبتلت عيونه بالدموع وقال: إفسحوا الى الله فلعله يرحمكم ويرد العذاب عنكم!
وصمت قليلاً ثم أردف: أخرجوا الى المفازة وفرقوا بين النساء والأولاد وبين سائر الحيوان وأولادها ثم إبكوا وإضرعوا الى الله.
وتحرك الموكب العجيب ذاك مترسماً خط التوبة، طريق العودة الى الله، ورددت الآفاق كلمات الإنابة والإستغفار وإغتسل الصعيد بدموع الإثابة الصادقة وصدحت الأرجاء بأصداء سمفونية كونية حزينة خالدة.
لم يكن الوضع يستتب بعض الشيء في السفينة حتى تعرضت لهزة اخرى أشد من الأولى. إنتاب الفزع الجميع وإنقلب يونس في البحر وراح الملاحون يسعون وراء مايجري. عند مقدمة السفينة كان الماء يتحرك في دوامة كبيرة ثم عاد ليهدأ غير أنه سرعان ما إرتفع من جديد. وذهل الجميع لهذه المفاجأة المرعبة ثم سرت على الأفواه كلمة واحدة: حوت حوت!!
كان حيوان يقف أمام السفينة فاغر فاه ساداً عليها الطريق وكأنه يقول ليس أمامكم طريق آخر غير دفع الضريبة المطلوبة. بعد لحظات تجسدت فيها صورة الموت للجميع غير أن كبير الملاحين تقدم ليرفع صوته بالقول: إسمعوا أيها الرجال لايغلبنكم الروع فليس هذه المرة الأولى التي نواجه فيها مثل هذا الأمر وألقى زفرة طويلة ثم تابع: كنا اذا إعترضنا الحوت لجأنا الى طريقة خاصة فدفعناه بها، وسكت!! وراح يجيل في الحاضرين نظرات غريبة وتنادى الناس: وماذا كنتم تفعلون؟
وردّ الملاح بنبرات هادئة: أجل ليس هناك حل آخر، لابد أن نعمل على نجاة الجميع، ثم سكت ايضاً.
وتعالى النداء: تكلم تكلم!
لابد أن نقترع فمت أصابته القرعة ألقيناه في البحر!!

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة