كان الخوف والإضطراب لايقعدها مكاناً إلا أقامها ولايدعها تسكن لحظة إلا أهاجها ولاتلتمس الإطمئنان هنيهة إلا سلبها إياها وأفزعها وتركها تدور وتدور، ترقب أول الطريق وتعود الى البيت وتمكث ثوان قليلة ثم تعود لتخرج من جديد متطلعة الى الطريق. وعندما يشتد بها القلق تصرخ بصوت مغيظ مكتوم: اين ذهبت؟ اين ذهبت؟
ولاتنفك تدور وتدور، ولاتنفك الأفكار والهواجس تدور وتدور برأسها هي الأخرى. أيمكن أن تكون قد أخطات سماع الهاتف "فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولاتخافي ولاتحزني إنا رادوه اليك وجاعلوه من المرسلين".
كلا كلا لقد سمعته بوضوح، بوضوح تام وهو يردد عليها الأمر الإلهي ولكن ياإلهي الطفل الصغير، الصغير كيف كان وادعاً مستسلماً للنوم عندما وضعته في ذلك التابوت. أجل وضعته في التابوت ثم ألقته في البحر.
ألقيته في البحر، اجل ألقيته في البحر، كيف ياإلهي؟!! كيف طوع لي قلبي أن ألقي صغيري في البحر؟
إنسابت الدموع من مقلتيها بهدوء. "فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولاتخافي ولاتحزني إنا رادوه اليك وجاعلوه من المرسلين".
مسحت دموعها وتمتمت بصوت جريح: غفرانك يارب، غفرانك!
فجأة مدت احدى الامرأتين يدها لتربت على كتف الأخرى وهي تقول: إيه بم تفكرين يا أمي؟
ضحكت المرأة العجوز وقالت: لقد كنت بإنتظارك إذ بعثتك إثر تابوت موسى.
بالله عليك لاتذكرينني ياأمي.
وأطلقت زفرة طويلة ثم تابعت: ما أوحشها من أيام، كان جنود فرعون يجوبون كل مكان، يتسورون على المنازل ويخطفون الأبناء الصغار ليتركوا أمهاتهم للوعة والأسى. أجل يابنيتي فيأجرهن الله. إنهن امهات ومن غيرهن أحق بذلك. وأطلقت حسرة متقطعة وهي تضيف: تذكرين كيف بلغ بيّ الحال عندما عدت اليّ ذلك اليوم لتقولي: ياأمي ياأمي لقد إلتقطه آل فرعون!!
آه يا لها من أيام قاسية!
ولكني جئتك بالبشارة عندما رضي آل فرعون بكفالتك إياه.
اجل يابنيتي، أحمد الله ولكن هل كنت تظنين أن ذلك يسكن قلب الأم؟ أن ترى وليدها ينمو ويكبر وهي لاتملك من أمره شيئاً إلا أن ترضعه وترعاه ثم تسلمه، تسلم فلذة كبدها الى يد عدوه!!
ياأمي ياأمي أرجوك دعينا من ذلك لقد نما موسى وكبر وأصبح رجلاً في دار عدوه تحت ظل بيت فرعون وسمعه وبصره، وشاء الله أن يحفظه طيلة حياته ثم ينجيه من فرعون وعمله وهاهو يعيش في مدين مطمئناً بعيداً كل البعد عن مصر وعن متناول عدوه.
أجل يابنيتي، أجل أحمد الله. ولكن كيف تريدينني أن لاأفكر به وهذه سنون عشرة لم أكحل عيني برؤيته؟ قالت المرأة العجوز ذاك وغارت عيناها بالدموع.
تحت ظل شجرة وارفة وقف شاب في عنفوان الشباب وراح يرقب جمع الناس الذين إحتشدوا مع دوابهم حول بركة الماء. كان المشهد ذاك أمراً عادياً بالنسبة اليه وكثيراً ما رأى التجمع ذاك حول العيون والآبار ولكن ما إسترعى إنتباهه وقوف فتاتين على مقربة من البركة وهما تذودان بأغنامهما على الماء فتعجب، وهمّ بأن يتقدم منهما ليسألهما ولكنه احجب. ومرّ وقت ليس بالقليل كان الناس يسقون ثم يتولون ليأتي فريق آخر يسقي. وكل هذا وهاتان الفتاتان واقفتان تذودان أغنامهما. فلم يطق الشاب صبراً، تقدم منهما وسأل "ما خطبكما"؟
"لانسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير"
لاعليكما أنا أسقي لكما
بارك الله فيك
إندفع الشاب بحيوية يسوق الأغنام نحو البركة وسرعان ما شق طريقه بين الزحام ذاك. وبعد أن أروى شياهه عاد يسوقهن نحو الفتاتين. ثم ودعهن وإنصرف الى الطريق.
كان التعب والجوع قد إستبدا به فقد قطع مسافة كبيرة على قدميه هرباً من ملاحقة النظام الفرعوني في مصر وهاهو يبلغ مدين لعل الله يجعله بمنجى من عدوه. ورفع عينيه الى السماء وغمغم: "ربي إني لما أنزلت إليّ من خير فقير".
وفجأة وقع بصره على امرأة تتقدم نحوه ودهش. أحد النظر اليها من بعيد فعرف فيها احدى الفتاتين اللتين سقى لهما قبل قليل، تقدمت منه وهي تمشي على إستحياء وقالت: "إني أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا".
وقطعت عليه زوجه حبل أفكاره وهي تدخل عليه متسائلة: وأي شيء أعد للسفر بعد؟
إبتسم موسى ضاحكاً، لقد عادت به الذكرى الى عشر سنوات مضت، ما أسرع ما تطوي الحياة الزمن، إلتفت الى زوجه يجيبها ثم سرحت عيناه من جديد في المكان، المكان الذي شهد إقترانه فيه بزوجه كما شهد شطراً غير قليل من عمره. راح يتملاه ويتملاه قبل أن يودعه عائداً الى مصر.
كان الجو بارداً والرياح الباردة تهب بقوة فتلسع وجهيهما وأطرافهما بقسوة ثم تتسلل الى العظام فتبعث القشعريرة في الجسم وبدأ الظلام يخيم على الأرجاء وتوقفت القافلة الصغيرة. تلفت موسى يمنة ويسرة فلم يجد أي أثر يهتدي به الطريق بيد أنه ساق شياهه من جديد فالوقوف يعني الموت وسط هذه المنطقة الوعرة الباردة. ومن بعيد حيث بدأ يقترب من احد الجبال الشاهقة ترائى له وهج ضعيف فإلتفت الى أهله وقال: "أمكثوا إني آنست ناراً لعلي آتيكم منها بخبر او جذوة من النار لعلكم تصطلون".
وتقدم بمفرده يباعد بين خطواته مستعيناً بعصاه، وعندما أصبح على مقربة منها لاحظ أن الوهج ينبعث من بين اوراق شجرة خضراء فذهل، بيد أن صوتاً قدسياً جميلاً إنطلق في تلك اللحظة مخاطباً إياه، وتجاوبت الطبيعة بالتسليم والخضوع وأحس موسى أن تياراً عظيماً من النور يغمره ويملأ قلبه بالرهبة والخشوع، أجنحة غير مرئية تحلق به بين السماء والأرض، أحزمة من شعاع، وهجاً عجيباً يداعب عينيه فيفتحهما على ملكوت السماء. وأنصت موسى طويلاً وتكلم ثم عاد ينصت من جديد. وهكذا عاد الكليم وهو يحمل السر الذي أباحته له السماء، الرسالة التي بعثه الله بها رحمة لبني اسرائيل.
كان بنو اسرائيل يعانون أشد أنواع العذاب والتنكيل من النظام الفرعوني الحاكم في مصر الذي لم يغادر إلاً ولاذمة إلا داسها ولانفساً او عرضاً إلا أباحها متى شاء وأنى شاء. والى ذلك كله كان الاسرائيليون منقسمين مشتتين تتوزعهم الآراء وتتقاذفهم الأهواء وشاء الله أن يجعل من تلك الفئة من الناس أمة ترفع لواء التوحيد في تلك المرحلة من عمر الزمن. وهكذا راحت المشيئة الإلهية حالة التوق لديهم الى قائد يحررهم من الأسر الفرعوني. وجاءت حادثة مقتل أحد رجالات فرعون على يد موسى إنتصاراً لأحد الاسرائيليين ومن ثم غروب موسى من وجه الملاحقة الفرعونية لتنسج وشاجاً عاطفياً قوياً بينهما ولتخلق حالة من التطلع الشديد نحو موسى.
وهكذا فقد كان لعودة موسى عليه السلام صدى عميقاً في نفوس بني اسرائيل ولعل هذا هو السبب المنظور الذي جعل السلطة الفرعونية تختار جانب التعقل وتلغي قرارها بمواصلة ملاحقة موسى وإعتقاله. أما موسى عليه السلام فكان ماض بعزيمة فولاذية لاتفل لأداء مسؤوليته الربانية سواءاً وجد في بني اسرائيل نصيراً أم لم يجد. فبادر الى تجنيد أخيه هارون لهذه المهمة ايضاً مستفيداً من قوته البيانية وفصاحته ليتكاملا من خلال جهديهما هذا التحرك الرباني المبارك الذي سيقود المجتمع الايماني نحو العبودية الحقة.
وهنا بدأت الساعة تدق ثوانيها الحرجة فقد نزل الأمر الإلهي العاجل "إذهبا الى فرعون إنه طغا فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر او يخشى".
ولم يجد موسى وهارون بداً من المسارعة الى تنفيذ الأمر الإلهي فخرجا متوجهين الى قصر فرعون. هناك غير بعيد عن النيل يمتد بناء فخم وشامخ تزين واجهاته الرخامية رسوم ونقوش مختلفة وعلى كل باب من أبوابه الضخمة المتعددة وقف عدد ليس بالقليل من الرجال الشاكين بالسلاح. وبدت هذه القلعة الحصينة عصية على الإختراق. وكيف لاتكون كذلك فها هنا ينتصب عرش الإله، الإله العاجز عن حماية نفسه وعرشه. اجل هو الإله المزيف. ولكن ماهذه الضوضاء التي تسمع عند الباب.
قفوا في وجهيهما.
إمنعوهما من الدخول!!