كانت المدينة تتمطى بتراخي وكسل وخمول وكانت تلعق جراحها بهدوء وتأني كأنها أم خرساء. وكانت تقر على الذل، ترى أبناءها يقتلون بأبشع قتلة وينكل بهم أشد تنكيل وتشاهد بيوتها تهدم وتتحول الى انقاض على ساكنيها او تدمر ويستباح كل شيء فيها. ترى كل ذلك وغيره كثير وتبقى نائمة راكدة لايخفق لها علم ولاترف لها راية. أجل لاترف منها إلا الجفون ولاتبذل فدى لكرامتها وحريتها غير الدموع. ولكن كيف حصل ذلك؟ ألم تتربع الكوفة يوماً على ذروة المجد وهامة العز؟ ألم يكن محلها بين المدائن الأخرى محل القطب من الرحى؟ ألم تحتضن الخلافة ومن قبل كانت مركزاً لعساكرها وجيوشها؟ وهل تراها اذا اخلدت على حين غرة تستنيم على كل هذا الذل وهذا الضيم وهذه الفواجع؟ ولكن أهذه الكوفة التي تلفها خيوط العنكبوت أم هي غيرها؟ ومال الناس يتحركون في كل إتجاه وهم فرحين مستبشرين؟ وما هذه الكلمات التي يلهج بها الناس عن البيعة ومسلم بن عقيل رسول الحسين؟
أبايعت يا عبد الله؟
لا والله إني ما سمعت إلا تواً، أصحيح مايقال عن قبول الحسين بن علي عليهما السلام دعوتنا للقدوم الى الكوفة؟
ماذا تقول يارجل؟ إن إبن رسول الله في طريقه الى هنا وهذا إبن عمه مسلم بن عقيل منذ أيام يستقبل الوفود تلو الوفود مبايعة مناصرة.
ها بشرت بالخير يابن عوسجة. ولكن كيف السبيل اليه؟
اذا شئت أن ترى مسلماً فهو في دار سالم بن المسيب.
وتقول إنه بايع له الكثير؟
أجل أجل إثنى عشر ألفاً خلال الأيام الثلاثة الأولى.
حمداً لك يارب، حمداً لك. ولكن قل لي ماهو موقف والي الكوفة النعمان بن بشير؟
ههه تسأل عن موقف النعمان، عندما رأى الرجل إنسيال الناس على مسلم بن عقيل خطب الناس فقال: إني لاأقاتل من لايقاتلني ولاآتي على من لم يأتي عليّ.
عجباً وهل ترى يسكت انصار الحزب الأموي في الكوفة؟
آه أصبت، نعم إنهم لم يسكتوا وقد بعثوا بالفعل رجلاً منهم الى الشام وحملوه كتاباً الى يزيد يخبرونه بالأمر ويقترحون عليه إنفاذ رجل قوي للكوفة.
إيه ذلك امر له خطره!!!
آه آه يا إلهي، يا إلهي. اللهم إرحمني برحمتك.
لاأراك الله مكروهاً ياشريك.
آه أسعد الله بالك يا أخاه.
خير ما الذي دهاك؟
قتلني قتلني إبن مرجانة، آه قتلني قتله الله!
ها وكيف؟
جاء بنا من البصرة، من البصرة يسوقنا سوق الرواحل، قاتله الله! ما أصبره على إحتمال مشقة الطريق!
أصحبت عبيد الله بن زياد من البصرة؟
أجل أبعده الله! لم يكن له من بغية إلا بلوغ الكوفة ساعة قبل اخرى.
وهل عرفت ما ينوي فعله؟
وماظنك بإبن زياد. وهل عهد أبيه لعنه الله عنا ببعيد!!
كفو كفو!!
ماوراءك يابن عروة؟
غلام بن زياد!!
ها !!
السلام عليكم
وعليكم السلام
وعليكم السلام أهلاً بك تفضل تفضل
إن سيدي يبلغك السلام ويقول ماله لايأمنا؟ وقد اخبرناه أنك شاكي! فقال لو علمت بمرضه لعدته!!
آه أجل أجل الشكوى تمنعني.
أذن سأقول له لازلت تشكو المرض!
كانت لدى دخوله المدينة بصفته والياً وحاكماً جديداً على البلاد وقع كوقع الصاعقة على الناس ذلك أن الجميع يعرف عليه أنه مجرماً عريقاً ومحترفاً في الإجرام وليس ذلك منهم إغراقاً في التشاؤم او الخوف فالبلاد تعيش غلياناً شعبياً وتمرداً. والناس قد أعلنوا من خلال إنتخابهم الحسين بن علي سبط الرسول قائداً وزعيماً الخروج على قيادة الشخص الذي فرض عليهم بالقوة وليس هذا في منطق النظام الارهابي القائم غير حل واحد وهو البطش والتصفية الجماعية للثورة ريادة وقاعدة. وهكذا وجدت الإشاعات مرتعها الخصب وراح ينظر لكل تحرك او كل خطوة يريد الوالي الجديد إتخاذها من خلال منظار مكبر يبرز الشيء في حجم مضخم يزيد ألف مرة عن حجمه الطبيعي. ولم يجد رائد الثورة او قائدها الميداني مسلم بن عقيل بداً من الإستجابة للإتجاه الذي أخذه تطور الحدث فسارع الى نقل مقر قيادته الى مكان آخر وإتخاذ بعض الإجراءات الضرورية التي يستلزمها الموقف. ثم اعلن لرجاله المقربين عن نيته لمواجهة بن زياد وأخذ زمام الموقف. فقال له هاني بن عروة: إني أرى أن لاتعجل!
وبدا شريك بن الأعور الهمداني مفكراً فإلتفت مسلم اليه مستطلعاً رأيه فقال: إن عبيد الله بن زياد يعودني هنا في بيت هاني وإني أرى أن تخرج اليه فتقتله!!
فوجئ مسلم بهذا الخبر إلا أن الإقتراح راق له على ما يبدو. فتابع شريك بلغة جازمة راسماً خطته بدقة: أني متع له الحديث. وعلامتك أن أقول أسقوني ماءاً!!
وبعد لحظات من التفكير ظهر البشر على وجوه الجميع فالعملية بلاشك ستختصر المسافة امامهم من أقرب السبل. وماذا سيكون هلاك عبيد الله بن زياد غير كسر الجناح الذي يطير به يزيد بن معاوية رئيس العصابة التي إغتالت الخلافة في الشام.
يا إلهي إن كل شيء بدأ يسير نحو الهدف المطلوب!
تبادل الرجال كلمات اخيرة ثم إنسحب مسلم ليكون في احدى الغرف المجاورة.
هههههه إيه ياشريك، يابن الأعور هكذا هي الرجال تضعف ويدب فيها الوهن.
ههه علمت أن لاطاقة بك على قطع تلك الشقة!
ماذا أفعل يا أمير كان السفر وبهذه العجلة فوق حد وسعي وجهدي.
هه وماذا ظننتني أيسقطني التعب مثلك ومثل عبد الله بن الحارث؟
إبتلع شريك ريقه بصعوبة او تظاهر بذلك ثم نادى: آه آه أسقوني ماء! وعاد يواصل الحديث: اين الكوفة من البصرة ياأمير؟
بل قل أين نحن من القوة الصلابة والجلادة؟
ألا من يسقيني ماءاً؟؟ نادى شريك متضايقاً وهو يقول مع نفسه: ماالذي يقعد بمسلم؟ يا إلهي، وماذا لو قام هذا اللعين؟ ألا تذهب هذه الفرصة السانحة؟ إلتفت الى عبيد الله بن زياد محاولاً إستدراجه الى الحديث مرة اخرى فقال: أكاد أقول إن الأمير رآنا دونما يطمح في رجاله من قوة وصلابة وجلادة فلم يبأسه أننا رحنا نتساقط الواحد تلو الآخر وكأن لسان حاله يقول: ما للإنتظار بسلمى أن تحييها كأس المنية بالتعجيل أسقوها ها ها
أجل أجل
أجل كأس المنية بالتعجيل أسقوها
أجل كأس المنية بالتعجيل أسقوها
وفجأة إستغاض إبن زياد وتوجس خيفة وساورته الظنون في أن يكون وراء هذا الكلام أمر ما فنهض منسحباً على عجل!
شعر شريك بالألم والحسرة ينهشا قلبه نهشاً، أيضيع تدبيره سدى؟ أتذهب الفرصة بهذه السهولة؟ أيعرضه نفسه لغضب إبن زياد وشره ويقدم رأسه لقمة سائغة لعدوه دون أن يحقق من وراء ذلك شيئاً ما؟
ودخل مسلم مهموماً حزيناً مطرقاً الى الأرض ومن وراءه هاني مطرق برأسه هو الآخر فإنتفض شريك صارخاً: ما منعك من قتله ياسيدي؟
أجاب مسلم دون أن يرفع رأسه: حديث للنبي صلى الله عليه وآله اذ قال "إن الايمان قيد الفتك فلايفتك مؤمن".
رفع هاني رأسه وظهر الإنفعال على قسماته وقال وهو ينظر الى جهة اخرى كأنه يخاطب شخصاً غير مسلم: آه أما والله لو قتلته لقتلت فاسقاً فاجراً كافراً.
وهدر صوت شريك رغم إرتعاشه مرة اخرى: ولكن ولكن لماذا؟؟
فردّ عليه مسلم بشيء من الإنفعال مقاطعاً: ماذا تقول ياشريك إنما قمنا بهذا الأمر من اجل أمر واحد ألا وهو أن نقيم المعطلة من حدود الله وهل هي إلا كتاب الله وسنة رسوله؟
نكس شريك برأسه وقلبه ينزف ألماً وإختنق بعبرته وغامت عيناه ثم زفتا دموعاً ساخنة كالدم.
كان الأمر بتقديره قد حسم لصالح العدو وأصبح خسرانهم الجولة بل الموقف برمته محققاً فكيف يمكن الحرب أن تكون مواجهة مبدئية. وهل عليك إلا ما توسل عدوك بكل الوسائل القذرة البعيدة عن الرؤى المبدئية والقيم الحقة؟ هل عليك إلا أن تعتزل الحرب؟ وهل اذا ما إعتزلتها يدعك عدوك وشأنك؟
وإنتاب شريك الفزع لهذه النتيجة!!