غص البهو الكبير الذي إحتشد فيه الناس بمختلف طبقاتهم ليشهدوا المحاكمة التي ستجري لأحد اعوان الخليفة العباسي السابق هارون.
وفي صدر المكان جلس المأمون الخليفة الجديد تحفه مظاهر الزهو والعظمة والى يمينه جلس رجل تنطق شمائله بالهيبة والوقار وتتلألأ عيونه بنور ساطع وعلى مقربة من الخليفة وقف رجل طويل القامة قوي الساعدين متجهم الوجه، وشت هيئته الغليظة القاسية أنه من اولئك الأشخاص الذين إختاروا لأنفسهم مهنة قتل الناس وإزهاق أرواحهم.
كل شيء في البهو الكبير يبعث على الخوف والهلع والترقب وماعدا وجه الخليفة والشخص الجالس الى جنبه فقد كست الوجوه ظلاله صفراء وكأنها كانت عرضة لرياح الصحراء الساخنة. أما الخليفة فقد تلونت سحنته بحمرة خفيفة ندت من حالة الغضب ورغبة الإنتقام. وعلى خلاف الجميع كان الشخص الآخر مطمئناً هادئاً إلا من مزحة ضيق وإنقباض طافت بقسماته المشرقة.
رفع الخليفة يده في إشارة خفيفة الى الجلواز الذي وقف على مقربة منه، تلقى الرجل الإشارة بسرعة كما لو كان ينتظرها وأطلق صوتاً قوياً خشناً منادياً على احد المتهمين!!
القيام على الأمين على أيدي انصار أخيه المأمون والتصدع الذي شهده البيت العباسي كان لابد للخليفة الجديد من مهادنة المعارضة التي يتزعم لواءها بشكل تقليدي آل البيت النبوي وليس من الصعب التكهن حتى على الخليفة نفسه أن هذه الهدنة لاتعدو أن تكون استراحة قصيرة لاتفي بإسترداد بعض الأنفاس نظراً لما عرف عن زعماء هذه المعارضة من صلابة مبدئية وإرادة فولاذية ترفض أساليب المهادنة والمساومة حتى راحت السلطات الحاكمة التي صدمتها هذه الحقيقة وعجزتها جميع محاولات الإلتفاف والخديعة تطلق عليها اسم الرافضة وتلاحقها شر ملاحقة. ولكن الخلافة العباسية تمر بهذا المأزق الخطر كان لابد من العمل وهكذا إستدعى الخليفة الجديد الى مرو زعامة المعارضة التي آلت آنذاك الى أبي الحسن علي بن موسى الرضا عارضاً عليه ولاية العهد. غير أن سليل البيت النبوي لم تكن لتنطلي عليه مثل هذه اللعبة فرفض هذا العرض ودافع المأمون في قبول ذلك إلا أنه وجده مصراً الى درجة أضطرت الخليفة الى حسر قناعه وشهر سلاح التهديد بوجه الرضا. عند ذلك حيث خرجت المؤامرة تمشي سافرة من ظلمة وكرها الى أعين النظار ووضوح النهار قرر وريث البيت النبوي تطويقها وإفراغها من مفعولها حيث أعلن قبوله بولاية العهد كمنصب فخري غير منوط بأي مهمة تنفيذية.
سارع المأمون الى قبول هذا الشرط وهو يقول في نفسه: الأيام كفيلة بالباقي!! حالماً باليوم الذي يتمكن فيه من تذويب المعارضة وإنهاء دورها. ومنذ ذلك اليوم شرع الخليفة يعمل ليل نهار لأن يجر هذه الزعامة العنيدة الى البلاط محاولاً إشراكها في مسؤولية قراراته ومواقفه وبالتالي نسف مكانته المعنوية في نفوس أتباعها. ولعلنا فهمنا الآن أسباب حالة عدم الإرتياح التي لحظناها على قسمات الرضا وهو أستدعى على كره منه لحضور المحاكمة التي يجريها الخليفة لبعض معارضيه فمن الطبيعي أن يخشى إحتمال إنطلاء خدعة السلطة على الناس فتعتبر حضوره المحاكمة دليلاً على إمضاءه لأحكامها وهو قبل ذلك يرفض أي محاكمة لاتقوم على أساس الحق والعدل وإحقاق الحقوق.
دخل المتهم تسبقه جلبة الحراس، أقتيد بغلظة حيث يقف الجلواز غير بعيد عن مجلس الخليفة. وقف الرجل الذي بدا هرماً مضعضعاً قد كلّ سمعه وضعف بصره فأحدقت به العيون من كل جانب. صعد الخليفة بصره فيه وبقي صامتاً. رفع الرضا عينيه لأول مرة ورمق الرجل بنظرة سريعة لأنه عاد بعد لحظة ينظر اليه وقد علت وجهه البغتة. وقبل أن يفوه الخليفة بشيء مال عليه الرضا ليقول: هب لي هذا الشيخ!
ردّ المأمون كمن فوجئ بهذا الطلب: ياسيدي هذا الذي سلب بنات رسول الله وفعل ما فعل!
عاد الرضا يكرر طلبه إلا أن صوتاً منكراً قبيحاً صرخ: يا أمير المؤمنين أسألك بالله وبخدمتي للرشيد أن لاتقبل قول هذا الرجل في ّ.
ودهش الجميع ياللرجل ذي الحظ النكد، يبدو أن فقدانه السمع أورثه حالة سوء الظن بالآخرين فحسب أن الرضا يسعى ضده لدى الخليفة.
إبتسم المأمون ونظر الى الرضا وقال: هه يا أبا الحسن قد إستعفى ونحن نبر قسمه. ثم إلتفت موجهاً خطابه للرجل: لا والله لاأقبل قوله فيك!
ماذا تريد يارجل؟
لابد أن أدخل البيت!
أمسك أبو الحسن بقوة بقائمتي الباب وقال: ولم؟
أجاب الرجل الذي قاد كتيبة عسكرية وقفت وراءه على اتم الإستعداد: أريد سلب النساء كما أمرني أمير المؤمنين.
قال الرضا: أنا أسلبهن لك.
لايمكن ذلك.
أحلف اني لاأدع عليهن شيئاً إلا أخذته!
ويصر الرجل على موقفه غير أن الضجة التي بدأت تتصاعد بين الناس المحتشين حول المكان ونذر الإنفجار الذي بدأ يقرع في العيون قلبت الموقف سريعاً وتنازل الرجل ليدع أبا الحسن يتولى تلك المهمة.
أجل كل ذلك طاف بذاكرة الرضا وهو يشيح بوجهه على الرجل الذي لم يكن إلا الجلودي قائد الحملة على بيته في المدينة المنورة قبل اعوام مضت وهي واحدة من حملات السلب والتنكيل الكثيرة التي قام بها جلاوزة هارون الخليفة العباسي ضد البيت النبوي كإنتقام لثورة محمد بن جعفر عم الرضا ضد الحكومة العباسية. وفجأة حطم صوت الخليفة الهدوء: قدمه فإضرب عنقه!
وماهي إلا هنيهة قصيرة حتى تدحرج رأس الجلودي. وفي وسط الجمع المحتشد ذاك أطرق احد الرجال وهو يكفكف دموعه فنكزه صاحبه قائلاً: ماذا أتعرفه؟
لست أبكيه!
اذن ممن بكاءك؟
أبكي اذ أن إبن رسول الله تأخذه الرقة والشفقة لهذا الحد بأعداءه!
منذ ساعات والناس تواصل زحفها صوب بيت أبي الحسن الرضا وفيما إفترش ألوف الرجال الطريق الذي سيسلكه لدى خروجه، أشرف النسوة والأطفال من على سطوح المنازل وعيونهم مشدودة الى الطريق. وعند عتبة الباب إزدحمت الخيل وعلى ظهورها وجوه الدولة وقادة الجيش. ونسى الكثيرون او كادوا يوم العيد فلم يتبادلوا التهاني، إنهم يعيشون اليوم سروراً، عيداً من نوع خاص. كان الجميع ينتظر ويترقب وكان سؤال يداعب الأذهان بإلحاح: هل صحيح أن إبن رسول الله نفسه سيأم صلاة العيد؟
وبينما كانت الشمس تنسج خيوطها الأولى سمعت أصوات التكبير تنطلق من داخل البيت. وما لبث الباب الذي تعلقت به العيون أن إنفرج وأطل شخص بهي الطلعة نوراني المحيا، كان الرجل على جلالته محتفياً مشمراً عن نصف ساقيه معتمراً بعمامة بيضاء حرص أن يضعها بطريقة تبعث على الشعور بالخشوع والتذلل وقد أضفى المظهر ذاك جواً عابقاً بالروحانية والقداسة فتملكت الناس الرهبة ووثب مسؤول الدولة وقادة الجيش من على ظهور جيادهم الى الأرض والحيرة تشلهم.
تقدم الرضا قليلاً ثم توقف وكبر وعاد من جديد فهدرت الجموع الغفيرة مرددة التكبير. وتجاوبت الأصداء بالصوت المجلجل كأنها قصف رعد مدوي. ومع هذه الأنشودة الروحية الجماعية المؤثرة إنسكبت الدموع بغزارة وإختلطت أصوات التكبير بالبكاء والنحيب واستمر الموكب المهيب ذاك يتقدم ويتقدم وكأن ارادة علوية سامية ترعاه وتفيض عليه رهبة وخشوعاً وجلالة.
إقتحم رجلان على حين غرة مقر الوزير الفضل بن سهل وهما يلهثان وخرجا بعد لحظة يسيرة يتقدمه الوزير نفسه. ولم يكد الوزير يبلغ بعض الردهة الداخلية حتى إلتفت لرفقيه وغمز لهما بعينه فتفرقا فيما واصل هو طريقه نحو قصر الخلافة.
يا أمير المؤمنين اذ بلغ الرضا المصلى على هذا السبيل إفتتن به الناس وخفنا كلنا على دماءنا فأمثل اليه أن يرجع. قال الوزير ذلك مخاطباً الخليفة بعد أن ظهرت على وجهه ملامح الإضطراب والخوف.
نهض الخليفة من مكانه عاجلاً ونادى على حاجبه وهتف وهو يداري حالة من الإرتباك: إبعث ويحك الى الرضا من يبلغه عنا أنا قد كلفناه شططاً وأتعبناه ولسنا نحب أن تلحقه مشقة فليرجع الى بيته وليصلي بالناس من كان يصلي بهم!!
إنطلق الحاجب يعدو فيما إلتفت المأمون الى وزيره يلقي اليه اوامره بتشديد الحماية ومراقبة الموقف بشكل دقيق. تلكأ الوزير بالإنصراف منتظراً اذن الخليفة له بيد أن الخليفة لم ينتبه لذلك، وراح يذرع البهو جيئة وذهاباً.
إنسحب الوزير بهدوء فيما واصل الخليفة حركته دون ملل!!
مرّ وقت ليس بالقليل والخليفة لايهدأ له عقل او جارحة. رفع رأسه فجأة والغضب بادي عليه: لم يعد هناك من سبيل. تسارعت خطواته وصرّ على أسنانه وحرك قبضتيه بشكل هستيري ثم توقف ضارباً بقدميه الأرض. بعد ذلك سار بهدوء الى عرشه وجلس بصمت وكأنه قد قاء غضبه دفعة واحدة.
بدا وكأنه قد مرق في لجة عميقة عميقة. اجل كان رأسه يموج برؤى حمراء دامية وعلى غير قصد منه إنسابت الكلمات المحتقنة بالغضب من فمه بهمس: اجل لله جنود من عسل!!