لم يكن يحمل أي تصورات عن شخصياتهم او هوياتهم المهمة التي يزورونه من اجلها لذلك فقد أثار دخولهم المفاجئ عليه توجساً وريبة. وكان يريد إستدراك ما فات. بادروا الى إلقاء التحية: "سلاما"
ورد عليهم وقد زايلته بعض شكوكه: "سلام"
ترى من يكون هؤلاء الرجال؟ لاشك أنهم غرباء فلم يصادف أن رآهم في هذه الأنحاء! أجل لابد أن يكونوا عابري سبيل.
وعندما إنتهى الى هذه النقطة من التفكير إستدار خارجاً وهو يقول مع نفسه: لعلهم بحاجة الى طعام!!
كان الرجل ورغم سنيه المئة نشطاً ذا هيئة بهية وقور ولم يكن بيته ملاذاً للضيوف وعابري السبيل والفقراء والمساكين وحسب وإنما كان مهواً للأفئدة ومركزاً للإشعاع والهداية.
ومن منهم لايود مجالسة ابراهيم خليل الرحمن والتزود من فيض روحه الكبير، هذا النبع المعنوي الثر الذي لاينزف.
عاد الشيخ حاملاً طبقاً كبيراً يعلوه شواء لذيذ ودفعه بلطف أمام ضيوفه. غير أن الرجال تبادلوا الإبتسام ولن يمدوا أيديهم الى الطعام. "ولما رأى أيديهم لاتصل اليه نكرهم وأوجس منهم خيفة". وعاودت الشكوك "إنا منكم وجلون"
"لاتخف إنا أرسلنا الى قوم لوط".
تأمل ابراهيم قليلاً وقد ذهب عنه الروع ثم قال: "فما خطبكم أيها المرسلون إنا مهلكوا أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين"
"إن فيها لوطاً"
"نحن نعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا أمراته كانت من الغابرين"
وبدا عند ابراهيم لديه مايقول ايضاً فتبادر اليه الرد "ياابراهيم أعرض عن هذا أنه قد جاء أمر ربك وأنهم آتيهم عذاب غير مردود"
غاضت بعض إشراقة وجهه البين وسرح بصره بعيداً وكأنه يتمثل ملامح الغضب الإلهي المهول.
عليه أن ينظم حملة واسعة لمكافحة الوباء وإستئصاله، هذه هي المهمة التي أنيطت به. ولكن أنى له ذلك وقد شاع الوباء وإستشرى وتجذر في حياة القوم وسلوكهم؟ وكيف له ذلك وهو لايمتلك من الوسائل الناجعة شيئاً اللهم إلا الكلمة وماعسى الكلمة أن تغني في مجتمع عاثت فيه الجريمة وسممت حياته الأوبئة الأخلاقية الخطيرة حتى لم يعد له من هم او طموح إلا التسابق في هذا الميدان الوسخ والخوض في هذا المستنقع الآسن. وبعد هذا فهل له سبيل غير الأخذ بأسباب العلاج الإلهي؟ ذلك المنهج الذي اخذ به الأنبياء على إمتداد تاريخ الرسالة الإلهية على الأرض والذي لايكتفي بالمعالجة السطحية ولايمنح الدواء لمكافحة اعراض المرض وحسب بل أنه الطب الحالق الذي يغوص الى الداخل، الى الأعماق ليستكشف أسباب الداء وجذوره ومن ثم يبدأ بوضع برنامجه العلاجي. فإن أتى بثماره المرجوة وظهرت علائم النقاهة والعافية ينفتح الطريق الى النمو والرقي الذي يرعاه التوفيق الإلهي. وإن أهمل العلاج وإستشرى المرض فإن العلاج الطبيعي والمنطقي حينذاك هو الإستئصال خوفاً من تفشي الوباء وسريانه الى الاخرين من أعضاء الأسرة البشرية الى بقية عباد الله.
ويحمد الله أن العلاج البديل ذاك ليس من مهمته ولايدخل اطار الوظيفة التي انيطت به.
وتنفس بعمق وهو يرنو للأشواك النابتة حوله وكأنه يستعد لطي مشوار طويل. وفي لمحة خاطفة عادت الى ذكراه الأيام العصيبة الأخيرة التي عاشها وعمه الكريم خليل الرحمن ابراهيم عليه السلام في قرية كوثي وقرار الهجرة الذي إتخذاه وتذكر كيف وقف يومها ليعلن على مسامع الملأ "أني مهاجر الى ربي إنه هو العزيز الحكيم".
أعادت اليه الذكرى شيئاً من الإرتياح والسكون ومع دفق كلمات الإبتهال الحارة المخلصة التي نبض بها قلبه وترنمت بها شفتاه أحس وكأنه تخفف من ثقل باهض كان ينوء تحته والعقبات المزروعة بالأشواك التي تعترض طريقه قد سويت. وإرتسم على شفتيه ظل إبتسامة كدأب قادة الدعوات السماوية عندما يواجهون العقبات في طريق العمل الرسالي فيبتسمون لها شعاراً خالداً يوحي بتعالي الإيمان والحق والصمود وثبات الموحدين.
سنو أسم لايغفله التجار والمسافرون آنذاك. وهل يمكنهم تناسي احدى محطات الطريق الرئيسية، كانت المنطقة تتوسط طريق القوافل التجارية بين الشام والجزيرة واليمن. ولم يكن للمسافر من خيار آخر غير طرقها ليتزود بالماء والمؤونة وهو يستقبل بلقعاً جديداً لاحد له.
وبدت المدينة في ضوء القمر الضعيف كجحافل جيش محطمة منهارة القوى ورغم ذلك فلازال سلطان النوم عاجزاً عن قهر عيون المتسامرين ولازالت أصواتهم وضحكاتهم تسمع من بعيد كالحشرجات الأخيرة في جسد محتضر..
لم يكن نصيبي اليوم بالشيء الذي يذكر، الأيام كثيرة والقوافل رائحة غادية ولك أن تأخذ ما تشاء او تدع ما تشاء اذا كان ذراعك يحملك يابن النخناء.
وهل تشك في ذلك يابن البوال على عقبيه؟
اذن ولم تشتفي ياأسد الأسود لقد وجدت ضالتي في شيء آخر ياأحمق!!
ههه وما هو؟؟
هه أتريدني أن أفشي أمري لك فتطالبني بنصيبك ايضاً؟
هههه قل قل ولاتخشى شيئاً!!
سنسوي الأمر كما تحب!
وماذا لو عرف لوط؟
سيبقى يلاحقنا بمواعظه السمجة "إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين" هههه
أجل "أنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في نادكم المنكر" هه
لاأدري هل يريدنا لوط وأتباعه أن نترهف؟
"إنهم أناس يتطهرون"
وإستمر الحوار الصاخب بين أنصار الحرية الجنسية بمزيد من الضحكات الماجنة والكلمات الساخرة الفجة. ولعله غمط لحقهم أن نقول إنهم أنصار وهم حملة فكرها التأسيسي والرواد الأوائل على طريق جيل الشذوذ المسخ، الجيل المنسلخ عن رجولته وكرامته، جيل الإيدز الذي بدأ يتفسخ ويتلاشى في وحول الخطيئة.
غير القلوب القليلة التي تفتحت للنور والحقيقة ظلت قلوب قوم لوط صدئة مسكرة فعندها لن تنبض بنسيم الحياة يوماً. وظل إندفاعهم الشاذ أهوجاً محموماً مسعوراً لايعرف قيداً ولايعترف بحد، وضاعت الفرصة ولم يعد هناك من سبيل او جدوى للعلاج. وحملت علائم الأفق إشارات غامضة تبعث على الضيق والإنقباض والخوف، ومع جنوح الشمس للمغيب كان هناك أربعة رجال يدخلون على لوط عليه السلام، كانت ملامحهم الوضاء تشرق ماجعله يحدس النتيجة التي يمكن أن يؤول اليها وجودهم في بيته فيما لو علم قومه بذلك. فسيء بضيوفه وضاق بهم ذرعاً وردد مع نفسه "هذا يوم عصيب". وأحس بالغموض الي يكتنف هذه الزيارة فلم يبق له إلا مواجهتهم بحقيقة مشاعره فقال: "إنكم قوم منكرون".
"بل جئناك بما كانوا فيه يمترون وأتيناك بالحق وإنا لصادقون"
كانت ملامحهم تشير الى أنهم يحملون رسالة خاصة وعاجلة وأنهم حريصون على إستغلال عامل الزمن الى أقصى حد. وسمع باب الدار وهو يفتح في تلك اللحظة. لعلهم الرجال الذين بدت عليهم علائم الحزم والرصانة إقتربوا من لوط وراحوا يسارونه بتفاصيل خطتهم السرية وما تضمنته من أوامر إلهية عاجلة. وفجأة علت الأصوات عند الباب وبعد لحظة كان هناك جمع من الرجال يقتحم المكان وذهل لوط عليه السلام ومشت غصة الألم في حلقه للحظة بيد أنه إستعاد إنتباهه ووثب أمام القوم آخذاً عليهم الطريق وصارخاً في وجوههم: "ياقوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فإتقوا الله ولاتخزوني في ضيفي أليس منكم رجل رشيد".
هذه رحمة وإيثار الرسالة وهذه الطبيعة السوية هذه فرصة العلاج الأخير. ولكن ما كان جواب قومه؟ كيف تلقوا هذا العرض السخي؟
ههه "لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك تعلم ما نريد".
أطلق النبي زفرة وشت عن قدرة شحنة الألم التي طب عليها فؤاده وقال: "لو أن لي بكم قوة او آوي الى ركن شديد".
"يالوط إنا رسل ربك أن يصلوا اليك" جاء هذا الصوت المجلجل ليمنح الموقف القوة اللازمة ويجعله ينفتح على الإمكانات الحقيقية التي رصدتها السماء لمرحلة العلاج الأخيرة.
ومع السحر يخرج لوط عليه السلام وأتباعه من المدينة وفي الوقت الذي اخذت فيه هذه الكتلة السوداء التي تدب على الأرض تبتعد عن المدينة، كانت هناك كتلة سوداء هائلة تطبق على سماءها. وإنبثقت الشمس من وراء الأفق ودقت ساعة الصفر وراح كل شيء يطلق صوتاً مدوياً مروعاً "وإنقلب عاليها سافلها". وأزت الرياح ومطرت السماء حجراً وإبتلع الفناء القرية الظالم اهلها لتبقى آثارها معلماً يشير الى عاقبة الانسانية التي تختار بمحض ارادتها الإنحدار الى الحضيض.