البث المباشر

ساعة الغروب

الإثنين 7 أكتوبر 2019 - 13:10 بتوقيت طهران

اذاعة طهران – قصص الصالحين : الحلقة : 17

 

كان همه الكبير لكنه الأخير. ذلك أنه يعلم أنه يعيش أيامه الأخيرة. أجل الأخيرة! حياته العظيمة الحافلة بالعطاء، ذلك الكفاح الطويل الطويل ستوضع له النهاية عما قريب وقريب جداً، أيام لاأكثر ولكن كيف ستسير الأمور في أخريات أيامه كما أراد لها وخطط أم خلاف ذلك.
تجربة شاقة تلك التي اخذها على عاتقه وهل هناك أشق من أن تعمد الى مجتمع فتنزع عنه معتقداته وسننه وعاداته ورسوماً هي ألصق به من أسمه ثم تقيم من نفسك حاكماً عليه، إفعل هذا ولاتفعل ذاك، كل هذا ولاتأكل ذاك، إشهر سيفك هنا وإغمده هناك! ولهون الخطب أن ذلك كله حصل في عصر العلم وإستنارة العقل ويقظة الوعي بل على الخلاف من ذلك تماماً فقد جرى كل شيء في وقت لم يزل فيه العلم جنيناً او علقة في أحشاء الزمن. وكان الجهل والجمود الفكري السمة البارزة والطابع العام لتلك المرحلة من عمر الزمن علاوة على ذلك فالبيئة التي كان على التجربة او عملية التغيير الرسالي أن تجري على أرضها من أشد البيئات إنغلاقاً وتعصياً وأكثرها تعصباً وتحجراً وتمسكاً بالأطلال والآثار الدارسة. ومع هذا وذاك فقد أمسك هذا الرجل الكبير بدفة السفينة بقوة وقادها الى شاطئ البر والأمان رغم الأمواج والعواصف العاتية. لكن مهمته لم تكن لتنتهي عند هذا الحد فهذه السفينة يجب أن تجوب المحيطات والبحار حاملة الزاد لجميع أفراد البشر الذي يعانون الفقر والمجاعة الروحية وحاملة الأدلة والخرائط التي تشير الى نقاط الأمان وسط صحارى الضياع والتيه البعيدة البعيدة.
أجل لم تنتهي مهمته عند هذا الحد فهو مسؤول عن تسليم الدفة الى ربان قدير يستطيع بما أوتي من علم ودراية وشجاعة من إقتحام أهوال البحار وبلوغ أقصى شواطئ الدنيا. ولكن أتراه مختاراً في من يرشحه هو خليفة له؟ او يرشحه هؤلاء الناس الذين صحبوه على إمتداد هذه الرحلة الشاقة ركاباً على ظهر السفينة؟ أم ترى أن هذا الأمر هو من مهمة أحد آخر؟ لعله صاحب السفينة ومالكها!!
كادت وخزات الألم تموج في وجهه المشرق الذي يفيض نوراً فينحسر قليلاً او كثيراً ذلم الألق السماوي الذي يزين طلعته الربانية البهية وبين الفينة والأخرى كان يفتح عينيه فيدير وجهه في الحاضرين. أجل لقد كان الرسول مريضاً طريح الفراش. على مقربة من فراشه جلس عدد من أبناء عمومته وذويه وفي الجهة الأخرى جلس عدد من صحابته بينهم عمر بن الخطاب. كان يبدو على وجوه الجميع الألم وكانت العيون تحوم حول ذلك الأكليل الذي إعتصره الذبول. وعلى وجه الرسول كان هناك شيء يطوف كما أن هناك شيء يفكر أن يقوله او يفعله. وأخيراً فتح عينيه، اجال بصره في الحاضرين وقال بلهجة عميقة حاسمة: هلم اكتب لكم كتاباً لاتضلوا بعده!!
ومن بين القوم الجلوس سارع احدهم بلهجة تدعو للأستغراب وكأنه يحاول تفادي وقوع امر هو على علم بحتمية وقوعه: ها عندكم القرآن، حسبنا كتاب الله!
فرد عليه آخر غضباً: وهل كلام رسول الله إلا وحي يوحى؟
وصرخ ثالث: وما يضرك أن يكتب رسول الله كتاباً؟
عاد الرجل يقول بوقاحة يحسد عليها: إن النبي ليهجر!
علت عدة أصوات ترد عليه: أتقول هذا لرسول الله؟ أسكت، أسكت الله نعمتك!
وإرتفع صوت مؤكداً: قدموا لرسول الله الكتب والدواة.
ورد عليه الرجل الأول ينز صلافة ووقاحة: كلا كلا لاحاجة لذلك.
ثارت الضوضاء وكثر اللغط حتى نادى الرسول: قوموا!!
كان للنبأ الذي تنوقل بسرعة حول مرض النبي صلى الله عليه وآله ردود فعل مختلفة في المدينة المنورة فقد دب الخوف والقلق بين المؤمنين وتوجسوا خيفة من أن يكون هذا العارض الصحي بداية لما أعلنه عليه الصلاة والسلام قبل ما يقارب الثلاثة شهور بقوله: أوشك أن أدعى فأجيب!!
أما المنافقون فقد فرحوا وإستبشروا بالخلاص وراحوا يتوافدون على كهوفهم المظلمة، يتناجون ويحيكون الدسائس تآمراً على مستقبل الرسالة. غير أن كلا الفريقين إستغربوا إصرار الرسول على إنفاذ جيش أسامة رغم هذا الطائل. وعندما تبالغ النبي بذلك قصد مواقع الجيش بنفسه وعقد اللواء بيده الشريفة لأسامة ثم حثه على المسير.
وتقدم أسامة امام الجيش يتبعه المقاتلون المؤمنون غير أن المنافقين ظلوا يراوحون مكانهم.
ماترى ياصاحبي؟ أليس هذا من العجب العجاب؟ الرجل ينام على فراش المرض ويبعث بجيشه لمقاتلة جيش الروم!! لاأدري أهذا من الحكمة والعقل؟
زه زه لاتزحمنا بزهيقك، تنحى بنا الى هناك وعندها تكلم ملأ فيك!
أقول لاتزال وقعة مؤتة خضراء العود فما الذي يريده محمد من وراء محاربة الروم خصوصاً وهو قعيد المرض؟
لاياصاحبي، إنك لم تبرأ من داءك منذ عرفتك، تستعجل الأمور ولاتعرف الأناة!
وكيف؟
إني أرى من وراء ذلك مالا تراه انت!
وماذا ترين يازرقاء اليمامة؟
لينفعك هزأك!
لا لا أقسم عليك.
بمن؟
بمن تشاء من الأرباب والآلهة!
حقاً لك أن تعرف. إني أرى أن محمداً يعمل بعقل وحكمة!
وكيف؟
دعني أسألك.
سل! هل ترى محمداً إستثنى أحداً لم يندبه الى الجيش؟
لاأدري، ولكني رأيت سادة قريش والأوس والخزرج وباقي القبائل.
قل المهاجرين والأنصار.
أجل أجل المهاجرون والأنصار إن شئت ولكن مهلاً مهلاً، لم أر علي بن أبي طالب؟
أجل هذا ما سأوصلك اليه ولكن دعني أسألك سؤالاً آخر: محمد يجهز جيشه لمحاربة الروم ويحشد في الجيش كبار المهاجرين والأنصار إلا أنه يؤمر عليهم أسامة بن زيد، فتى ذا سبعة عشر ربيعاً لاغير ويستبقي عنده علي بن أبي طالب. ثم أنه يفعل كل ذلك وهو على فراش المرض!
ما الذي تريد أن تقول؟
الأمر واضح تمام الوضوح!
دعني!
أجل أجل إن محمداً أحس بدنو أجله فهو يريد إبعادنا وإبعاد من يخافه ليخلو له الجو في تنصيب إبن عمه خليفة له. حتى اذا ما عدنا يقول أمر الخلافة أمر مقضياً.
عجباً وكيف فاتني ذلك.
اذن قل لي لماذا إختار هذا الصبي على رأس الجيش؟ أعزت الرجال؟؟
ذلك يصبح أمراً واضحاً، حتى تقع هذه الأسبوبة تلاحقنا. إنه بالأمس أمر عليكم صبياً ولو وجدكم أفضل منه لأختاركم للأمارة.
أجل هو كما قلت.
أذن لايتبغي أن نسمح بهذا أبداً!
أجل أجل ولكن ألديك تدبير ما ؟
سترى!!
أصدر قائد الجيش أوامره بضرورة أن يعسكر المقاتلون في الجرف بإنتظار إلتحاق المتخلفين. كما شرع بإتخاذ العديد من الإجراءات العسكرية الضروري بينها تعيين حامل اللواء وهو موقع له خطره في التنظيم العسكري السائد في الجيوش آنذاك. غير أنه أحس بوتيرة العمل تتثاقل وتتلكأ ثم تأكد من عبث التيار النفاقي بين قطاعات الجيش وطرقت أذنيه العديد من الإشاعات والتحريضات التي راح يبثها هذا القطاع الخبيث. وخشية من إتساع هذه الجبهة سارع أسامة الى كتابة تقرير تفصيلي وإرساله على وجه السرعة الى النبي صلى الله عليه وآله.
دخل رسول أسامة على النبي وتردد ليسلمه الكتاب. كانت حالته الصحية قد تدهورت كثيراً ولحظ النبي صلى الله عليه وآله التردد في عيني الرجل فأشار اليه ليقول ما عنده. فلم يجد من سبيل إلا أن يتقدم ويناوله الكتاب. وشيئاً فشيئاً بان الغضب في وجهه الكريم فنهض من فراشه ثم خرج معصوب الرأس متدثراً بقطيفة وأخذ سبيله الى المسجد.
بدأ الناس الذين فاجئهم ورود الرسول صلى الله عليه وآله يتراكضون ليحيطوا به. وعندما عرفوا نيته في صعود المنبر أفسحوا له الطريق ثم تعلقت عيونهم بشفاهه إصغاءاً لما يقول.
شمل عليه الصلاة والسلام الحاضرين بنظرة فاحصة طافحة بالغضب ثم تكلم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس ما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري أسامة ولأن طعنتم في تأميري أسامة فقد طعنتم في تأميري أباه من قبله وإنه والله لكان خليقاً بالأمارة وأن إبنه من بعده لخليق بها!
وسكت النبي قليلاً ثم راح يحض على المبادرة بالإلتحاق بالجيش. نهض الحاضرون ملبين دعوة النبي وبدأوا يودعونه صلى الله عليه وآله ثم يغادرون المسجد صوب المعسكر.
ولكن الفتنة التي أشعل فتيلها المنافقون إستشرت وراحت تتفاعل بشكل خطير فتبذر بذور التمرد بين صفوف الجيش محاولة دفعه للخروج على الطاعة والإنقياد لقائده الميداني.
الشمس تودع الأرض وخيوط النور تضمحل وتذوي شيئاً فشيئاً وكأنها وهي تسير في موكبها الحزين ذاك تودع الحياة الى غير عودة، كل شيء يذهب لأن يغرق في الظلام والسبات الطويل الطويل غير نسيمات المساء التي تهب بوداعة وكأنها أرواح محلقة في الأعالي. وتتناغم أصوات الطيور مع معزوفة الحزن الكوني فيهدر الحمام بألم وحنين وتموزق العصافير بتراخي وخمول وكأنها تنشج بهدوء، ويتصل النشيج وترتفع الأصوات بالبكاء من بيت الرسالة ثم تسري الى كل مكان. بعدها لاتلبث المدينة أن تضج نادبة باكية.

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة