البث المباشر

حريم الشهداء

الإثنين 7 أكتوبر 2019 - 12:01 بتوقيت طهران

اذاعة طهران – قصص الصالحين : الحلقة : 15

 

لو أن هذه المحاولة فشلت هي الأخرى لبقي يحاول ويحاول حتى يصل الى مرامه ولكن أتكون نتيجة مسعاه الجديد الخيبة حقاً، لايدري لم لايفكر الخليفة مثل ما يفكر هو؟ أتراه أبعد نظراً عندما يخشى عواقب الإقدام على مثل هذه الخطوة؟ إنه لايعلم مدى خطورة بقاء هذا الشبح!
صرخ بأعلى صوته بالعبارة الأخيرة ثم عاد يناجي نفسه: شبح؟ أجننت؟ كلا إنه كابوس، كابوس مرعب يؤرق ليلي ويوزعني في يقظتي ونومي!! لاأدري أمجانين هؤلاء الناس؟ ما الذي يجدونه في التردد على هذا الرمس؟ وماهي الفائدة التي يجنونها من زيارة هذه الأطلال والتمسح بها؟ اللعنة اللعنة! كل يوم لهم معه شأن آخر، كل يوم يلبسونه ثوباً جديداً، يوم للزيارة ويوم لإحياء الذكرى وثالث لاأدري لمن؟؟ ولاأدري رابع يكون للمؤامرة وعصيان الخليفة! أجل وهل اليوم سليمان بن صرد وأصحابه التوابين عنا ببعيد.
أطلق الرجل زفرة عميقة وأردف: وغيرهم وغيرهم كثير.
ثم صرخ: لا لابد أن يزول، لابد أن يمحى أثره، لابد أن يندرس!!
طرق الباب طرقتين هادئتين إلتفت الوالي صوب الباب وقد أستثيرت أعصابه بقوة فقال بعقل نصف مشلول وصوت شبه مبحوح: من؟؟
جاءه صوت حاجبه ليعيد اليه بعض الإطمئنان: انا ياسيدي!
أنت يازرارة؟ أدخل أدخل!
هذا كتاب الخليفة وصل للتو على البريد.
كتاب الخليفة؟ أليّ به!
فض الكتاب وبدأ يقرأ على عجل. وشيئاً فشيئاً راح ملامحه تنبسط وتنبسط حتى أطلق ضحكة عالية ذهل لها الحاجب!!
مدينة الكوفة تسبح بأشعة شمس الصيف الحارة وأزقة المدينة الضيقة والملتوية خاوية عدا أشخاص قليلون يمرون على عجل عائدين الى بيوتهم للإحتماء بها من شدة الحر. وفي احدى الأزقة العريضة نسبياً كان هناك شيخ كبير تبدو عليه شمائل النبل والشرف يمر على حمار أبيض، ملامح وجهه المتقبضة تشير الى أن لديه باحة زهو على ترك ظل بيته الوارف واستقبال لفح حرارة الشمس اللاهبة، حوافر حماره النشيط تقرع أرض الأزقة بقوة فيتردد صداها في هدئة تلك الساعة التي يأوب كل شيء على عيشه فيحل الهدوء والسكون. اجل كل شيء هدأ والسلام الى ملجأه غير حمار هذا الشيخ الكوفي، ولعل هذا ما أثار فضول يحيى بن عبد الحميد الحماني ودفعه لأن يفتح نافذته ويتطلع الى هذا الراغب في التجول في هذه الساعة الحارة من النهار وفوجأ: أهذا انت يابن عياش؟
أجل والله! ألا تخرج؟ فعندي ما أريدك من اجله!
اغلق يحيى النافذة وخرج لإستقبال صاحبه، أهلاً بك يا أبا بكر، اهلاً بك تفضل تفضل بالدخول!
لا لا إن هناك ما يدعوني للذهاب الى قصر الوالي إلا أنني بحاجة الى شاهد.
شاهد؟ ليس أيسر من هذا!
وسط حديقة غناء متشابكة الأشجار شمخ قصر كبير وجميل. كانت الشمس تسكب أشعتها الذهبية عليه فتكسبه حلة ذهبية قشيبة ولم يكن كل ذلك يستوقف إبن عياش وصاحبه وهما يعبران حديقة الوالي الواسعة الغناء الى قصره المنيف. بل الذي أوقفهما هم رجال الحرس الذين وقفوا عند بوابة القصر الداخلية ولم يدعونهما ينخطونها إلا بعد أن أخضعوهما لتفتيش دقيق. في نهاية غرفة واسعة جلس الوالي على سرير خاص وعلى جانبيه إصطف صفان من المسلحين.
اهلاً أهلاً، قام موسى بن عيسى من سريره وهو يردد هاتين الكلمتين وتقدم خطوتين مستقبلاً أبا بكر ثم قاده ليجلسه الى جانبه.
إلتفت إبن عياش الى رفيقه يستدنيه اليه فقال الوالي: هذا رجل تكلمنا فيه؟
أومضت عينا أبي بكر ببريق خاص وقال: لا ولكني جئت به شاهداً عليك!
رد الوالي كمن فوجئ: في ماذا؟
أصبح صوت الشيخ أكثر عمقاً وهو يقول: لقد لحظت وأنا امر قبل أيام أن جنودك قد أحاطوا بمرقد الحسين بن علي بن فاطمة إبنة رسول الله صلى الله عليه وآله وإنهالوا على زواره بالضرب فيما إنشغل آخرون بحراثة الأرض المحيطة به ولاأدري ما الذي ينوون فعله؟ إنني ما جئت الى هنا إلا من أجل أن أقول لك: إتق الله!! ولاتؤذي رسول الله في سبطه، الأولى بك أن تنهى عن مثل هذا العمل الذي يسخط الباري عزوجل!
بأعصاب متوترة وصوت مبحوح صرخ الوالي: كفى كفى وأردف بنبرات عاتية متفرعنة: إنما أمسكت عن إجابة كلامك لأستوفي هذه الحمقة التي ظهرت منك!! وتالله إن بلغني بعد هذا الوقت أنك تحدث بهذا لأضربن عنقك وعنق هذا الذي جئت به شاهداً عليّ !!
إجتاحت الشيخ رعشة الغضب فصرخ هو الآخر: أذن يمنعني الله وإياه منك فإني إنما أردت الله بما كلمتك به!
صرّ موسى على أسنانه وصرخ بأعلى صوته: أتراجعني يا؟ وراح يردد كلمات فاحشة ثم أطلق صرخة كالعواه: أيها الحارس، أيها الحارس فلتؤدب لي هذا العجوز المخرف وصاحبه ثم لتلقي بهما في السجن حتى يتعفنا فيه على مهل!!
هجم أفراد الحرس على الرجلين وسحبوهما سحباً ثم طرحوهما في باحة القصر وإنهالوا عليهما ضرباً وركلاً حتى فقدا الوعي تماماً. بعد ذلك حملوهما الى السجن ورجلاهما تخطان الأرض!
كان خامس خلفاء بني العباس هارون طاغية متجبرة فبدلاً من أن يستشعر روح الشكر والطاعة والإنقياد لخالقه الذي أتاح له الإمساك بمفاتيح الدنيا العريضة ونعم وخيرات لاحدود لها إنتفخ وتجبر وظلم وتبجح وهو يرمق السماء بطرفه ويقول: أينما تنظرين فإليّ خراجك!! إنه يتطلع بإستمرار لشيء رسمه في ذهنه ثم يشبه بأنفه خارطة تمتطت على مساحة شاسعة من الأرض فاتحة ذراعيها من مناطق جنوب شرق آسيا الممطرة وحتى مجاهل أفريقيا ومن هضاب جنوب أوربا الخضراء الممرعة حتى سواحل المحيطات والخلجان في آسيا وأفريقيا. إمبراطورية مترامية الأطراف تزاحم فيها ملايين الناس بمختلف الألوان والأعراق ولكن اين من اين؟ بعض يعيش في قصور أسطورية مزينة بأنواع الرخام ومجهزة بالأواني الذهبية والفضية ويقف فيها آلاف العبيد والجواري على اهبة الاستعداد لخدمته والترفيه عنه وبعض آخر يضع على كاهله اللباس البالي ويجهد من الصباح حتى المساء سعياً للحصول على لقمة العيش ومع كل هذا الشقاء فهو لايأمن لحظة أن تنهال عليه أصوات الولاة واعوانهم الجفاة.
أجل عصر ذهبي كما يقولون ولم لا! وهل هناك أكثر بريقاً ولمعاناً من بريق الذهب الذي يزين به جواري الخليفة صدورهن ومعاصمهن؟ وهاهم المخلصون، حملة راية الاصلاح وإعادة المسيرة الى جادتها المحمدية الأصيلة يتهاوون الواحد تلو الآخر بسيوف البطش والارهاب ويقمعون ويسحقون وينكل بهم أشد تنكيل ليكونوا عبرة لكل الأحرار والثوار وطلاب الحق والعدل. وهاهم اعوان الظلمة والجلادون يصنعون في كل يوم مأساة مروعة يرممون بها كرسي الجلاد من جماجم الصالحين والمخلصين. وكان هؤلاء الجناة يتخيرون من بين أفراد البطالة كولاة على الأقاليم ليكونوا أقدر على كم أفواه المظلومين وتلجيمها وإسكات صرخات الأحرار والولوغ في دماء المجاهدين. ولهم بعد ذلك أن تملأ جيوبهم مالاً وأن يدخل احدهم متى شاء على الخليفة ليقول له: أوق الركاب فضة او ذهبا. وموسى بن عيسى والي الكوفة أحد هذه النماذج المريضة الذي لم يضع فرصة تواتيه للتنكيل بأنصار البيت النبوي وقتلهم او ملاحقتهم وإلقاءهم في الطوامير المظلمة حتى يلاقوا حتفهم بأسوء حال. وشد ما يغيظه أن يرى هذا الإقبال المنقطع النظير على زيارة مرقد سبط الرسول وريحانته الحسين بن علي عليه السلام. لقد أصبح ذلك المرقد بالنسبة اليه كابوساً لايفكر إلا بالخلاص منه ولم تكن أحقاد الرجل الشخصية هي الوحيدة التي تسول له التفكير بالعدوان على الحرم الحسيني وإنتهاك قدسيته وتخريبه بل أنه أصبح يرى فيه مركزاً وقاعدة إنطلاق أنصار البيت النبوي. وكان للإجراءات الشائنة التي إتخذها عقب تلقيه الاشارة الخضراء من العاصمة العباسية ما أثار الغالبية الساحقة من المسلمين وحتى اولئك المسلمين غير المنضوين تحت لواء الزعامة الربانية لأهل بيت الرسول صلى الله عليه وآله. أعلنوا عن إدانتهم ورفضهم وسخطهم بل ومعارضتهم الصريحة لتلك الإجراءات. وأبو بكر بن عياش هو واحد من هؤلاء المسلمين الذين لم يسوغ له دينه وضميره السكوت وهو يشهد مثوى إبن نبيه ينتهك ويعتدى عليه!!
الطامورة مظلمة وحالكة الظلام والليل موصول بالنهار فلاتعرف الساعة من الليل هي أم من النهار. اللحظة الوحيدة الخاطفة التي يرى فيها السجناء بعضهم البعض ويرون انفسهم ويصدقون أنه لايزال هناك خيط رفيع يمتد بين عالمهم وعالم الحياء هي تلك اللحظة التي يفتح فيها السجان باب الطامورة ليدفع صحناً قذراً فيه شيء من كسيرات خبز وإناء من الماء العكر. وعند ذاك تضيء رشحة من الضوء داخل الطامورة تنيرها ثواني معدودة ثم تعود الطامورة تسبح في الظلام من جديد. وهذه الجدران الميتة الكئيبة هي الأخرى تدب فيها الحياة وتنطق بالألم لحظة الانارة تلك. إنها تحطي قصة العذاب الطويل التي تبدأ بظلمة الطامورة وتنتهي بها بعد أن تتحول تلك الطوامير الى قبور لروادها. اجل إنها قصة روتها بصدق سطور خطها السجناء بأظفارهم الطويلة وغفلوا او تعمدوا أن لايذكروا لها تاريخاً. وفي عمق الظلام في تلك الطامورة الموحشة حيث يرقد الشيخ وصاحبه توغل الذئاب فجأة فرفعا رأسيهما ليشاهدا وجهاً تضيئه الابتسامة، وجهاً لم يروه من قبل يطل من بوابة الطامورة وهو يقول: أخرجا لقد أهلك الله عدوكما!
وسرعان ما ترصعت كريمة الشيخ بقطرات الدموع وإلتفت الى صاحبه قائلاً: أتذكر ما ردده به يوم هددني وإياك بالقتل؟

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة