مستمعينا الأطايب في كلّ مكان !
تحيّة الإسلام والإيمان نبعثها إليكم في هذا اللقاء الآخر الذي يسرّنا أن يجمعنا بكم بين ربوع نهج البلاغة الغنّاء ، برجاء أن تقضوا معنا أوقاتاً حافلة بالمتعة والفائدة عند تتمّة حديثنا الذي بدأناه في الحلقة الماضية حول براعة التشبيه في نهج البلاغة ، تابعونــا ...
إخوتنا المستمعين الأفاضل !
تكثر التشبيهات وتتكاثف وتتشعّب في نهج البلاغة إلي درجة تحوّله إلي لوحة من الفسيفساء جميلةٍ وخلّابة من التشبيهات بجميع أنواعها من مباشرة وغير مباشرة ، ومن مفردة ومركّبة ، ومفصّلة ومجملة ، وتمثيليّة حافلة بالحركة والحياة ، وإذا بنا نقف إزاء كتاب يمكننا أن نستقي منه مانشاء من نماذج التشبيه الرائعة وأمثلته لمن طلب دراسة فنّ التشبيه في علم البلاغة .
ومن أمثلة التشبيه المجمل البليغ الذي يكاد أن يتحوّل إلي استعارة لروعته وجماله ، قوله سلام الله عليه :
"صَدْرُ الْعَاقِلِ صُنْدُوقُ سِرِّهِ، وَالْبَشَاشَهُ حِبَالَةُ الْمَوَدَّهِ، وَالْاحْتِمَالُ قَبْرُ الْعُيُوبِ
فنحن نقف ها هنا إزاء جمل متتالية تتابع فيها التشبيهات البليغة المجملة ؛ أي التشبيهات التي يعمد فيها المتكلّم إلي تشبيه أشياء بأخري من دون أن يتوسّل بأدوات التشبيه ومن غير أن يذكر وجوه الشبه بصراحة ، وهي تشبيهات بليغة تعدّ من نوع التشبيهات الفنيّة التي تتطلّب مهارات خاصّة من قبل المتكلّم ، متوفّرة دون أدني شكّ في متكلّم بليغ كالإمام علي (ع) ؛ فالإنسان العاقل الحكيم ينبغي عليه أن يحتفظ بأسراره في صدره كما يحتفظ بأشيائه ومقتنياته النفيسة فيجعلها في صندوق بعيداً عن متناول الآخرين ، وفي الجملة الثانية البشاشة حبالة المودّة يشبّه عليه السلام طلاقة الوجه والابتسام عندما يلقي الآخرين بالمصيدة والشَّرَك الذي نستطيع من خلاله أن نخطف ونحصل علي حبّ الآخرين ومودّتهم لنا في علاقاتنا الاجتماعيّة معهم ، وهو تشبيه رائع يسلّط فيه الإمام الضوء علي الدور السحريّ الذي تلعبه طلاقة الوجه ورسم الابتسامة علي الوجه في كسب حبّ الناس لنا ذلك لأنّ الإنسان بطبيعته يهفو قلبه إلي كلّ ما هو جميل وليّن من مواقف الآخرين معه ، وأمّا الاحتمال والصبر والحلم وضبط النفس وما إلي ذلك من صفات وملكات ينتصر من خلالها الإنسان علي نفسه الميّالة إلي الغضب والفوران فإنّه يمثّل أفضل وسيلة يروّض من خلالها الإنسان نفسه الجَموح ويحدّ من طغيانها وفورات غضبها ليمنع بالتالي عيوبه من أن تطفو علي سطح سلوكه حتي لكأنّها توضع في قبر لاسبيل إلي الخروج منه ؛ هذه العيوب ونقاط الضعف التي يفجّرها الغضب في لحظات انفلات زمام النفس من يد الإنسان !
مستمعينا الأكارم !
وسئل عليه السلام عن القَدَر فقال موظّفاً فنّ التشبيه المفرد البليغ والمجمل في إيضاح إجابته :
"طَرِيقٌ مُظْلِمٌ فَلاَ تَسْلُكُوهُ، وَبَحْرٌ عَمِيقٌ فَلاَ تَلِجُوهُ، وَسِرُّ اللهِ فَلاَ تَتَكَلَّفُوهُ.
ومن المعلوم أنّ موضوع القَدَر يعتبر من المواضيع والقضايا العويصة والألغاز التي لم يستطع الإنسان بعقله المحدود ومداركه المتواضعة أن يتوصّل إلي تفسير مقنع وجازم بشأنها ، وحتي الفلاسفة وأرباب الفكر والكلام وقعوا في الحيرة وربّما الضلال في بيان دوره في حياة الإنسان ، وتقرير فيما إذا كان الإنسان مخيّراً في حياته أم مسيّراً ، فهو يمثّل إذن طريقاً مظلماً مدلهمّاً لايري فيه السالك شيئاً ولا يملك سوي أن يتخبّط فيه ويسير سير العشواء ، فالأفضل لنا إذن أن نحذر من سلوكه ، وأن لا نلج عالمَه فهو كالبحر العميق الذي لاقرار له ، والذي لانهاية لمداه ، بل هو سرّ من الأسرار الإلهيّة التي اختصّها الله بعلمه ، ولايحقّ للإنسان أن يقتحم عوالمه ومجاهله وإلّا كان مصيره الحيرة والضلال ، وشتّان ما بين العلم الإلهي الذي وسع كلّ شيء ، وأحاط بكلّ صغيرة وكبيرة ، بل العالم بالسرّ وما أخفي منه ، وبين علم الإنسان القاصر المحدود المغلّ بقيود المادّة والحسّيات !
مستمعينا الأحبّة !
إخوتنا المستمعين !
كان لنا اتصال هاتفي مع خبير البرنامج الدكتور خليل برسان أستاذ جامعي من ايران الذي سألناه عن فنّ التشبيه ومكانته في نهج البلاغة ومدي استعانة أمير المؤمنين (ع) به في إيصال المفاهيم و المعاني التي كان يريد إيصالها إلي الناس في عصره ؟ فأفادنا في هذا المجال قائلاً :
برسان: بسم الله الرحمن الرحيم في الواقع التشبيه يرتكز على عنصرين، الأول طريقة التأليف والثاني إبتكار مشبه به بعيد عن الأذهان ولايجود إلا في نفس الأديب الذي وهب الله له إستعداداً سليماً في تعرف وجوه الشبه بين الأشياء وأودعه قدرة على ربط هذه المعاميد. كذلك التشبيه الذي أنشأ بلاغته على أنه ينتقل بك من الشيء نفسه الى شيء طريف يشببه او صورة بارعة تمثله، وكلما كان هذا الانتقال بعيداً قليل الخطورة عن البال او ممتزجاً بقليل او كثير من الخيال كان التشبيه أروع للنص وأدعى الى إعجابها وإهتزازها. ثم ننظر الى قوله عليه الصلاة والسلام مثال آخر، كذلك في وصفه للملائكة في اللون الأبيض وذكر اللون الأسود في بعض الملائكة والآن يذكر اللون الأبيض لملائكة آخرين فيقول "هم كرايات بيض" المعروف أن البياض يتجلى في الجديد والشيء وبما أنهما محسوسات لدى الجميع فلا تحتاجان الى إعمال فكر او دقة نظر فعدل عنهما الى شيء يلفت الانتباه الى هذا اللون. وهو كونه مع الأعلام، البيضة فإنه خرج عن المألوف والمتعارف الى شكل جديد والى صورة بارعة تمكنه على الانتباه وهذا سيزيد الشوق في الوجدان أكثر والنظر اليه بدقة وإعتبار هذين التشبيهين كيف تم بيان هذا المشبه في القوة والضعف والصغر والكبر والزيارة والنقص.
المحاورة: أيها الأفاضل وحول بلاغة التشبيه في نهج البلاغة والقيمة الفنية والجمالية التي يتضمنها، وتقييمها من الناحية البلاغية طرحنا سؤالاً آخر على ضيفنا على الهاتف فأدلى لنا الأستاذ الدكتور خليل برسان الأستاذ في جامعة العلامة الطباطبائي من طهران في هذا الصدد بهذا الحديث. نستمع اليه:
برسان: من المعلوم أن الغرض الأول في التشبيه هو إبراز الفكرة وتجليتها جلاءاً تاماً كي تؤثر في قارءها وسامعها أقوى تأثير وأشده. وعادة تبرز أهميتها لما تأتي جديدة طريفة، لم يستند اليها أحد. أنظر الى قوله عليه السلام حيث جاء في وصيته للامام الحسن المجتبى عليه السلام حيث يقول "حتى لو أن شيئاً لو أصابك أصابني وكأن الموت لو أتاك أتاني" فصور العاطفة بشكل يدركه السامع عن طريق الاصابة سواء كانت عن طريق الضربة بالسيف او الرمي بالرمح او السهم. فالألم الذي شعر به الامام عليه السلام وأحسه في وجدانه إنقلب مباشرة مع الصورة الى نفس السامع وكذلك في هذا المجال وفي هذه الرسالة، جاءت تشبيهات اخرى منها قوله عليه السلام "ستكون كالصعب النفور" حيث إستوفى جميع أركان التشبيه فالمشبه الضمير في تكون وأداته الكاف والمشبه به الصعب النفور وهي من احدى صفات الفرس الجموح ووجه الشبه محذوف تقديره عدم السيطرة فهو من باب تشبيه التمثيل. فأنظر كيف صور النفس الأمارة بالسوء بالفرس الجموح الذي يمنع ظهره من الركوب، هذه أول صورة، ويرمي بالراكب أرضاً مصروعاً، هذه الصورة الثانية. فوجه الشبه منتزع من صورتين. أنظر الى الصياغة الجميلة بالإباء والإمتناع. كيف صورت بشكل تؤثر في عواطف السامعين. أخيراً يجيب الى قوله تعالى " قلب الحدث كالأرض الخالية ما ألقي فيها قبلته" حيث إشتملت على جميع أركان التشبيه. وهكذا لو أردنا السير مضياً في هذه التشبيهات فنجد لها أمثلة كثيرة فنرجو من الله أن يوفقنا لصالح الأعمال.
المحاور: موفور الشكر وكثير الامتنان للدكتور خليل برسان الأستاذ الجامعي من الجمهورية الاسلامية في ايران ونتواصل معكم حضرات المستمعين الأفاضل ضمن هذا البرنامج الذي يقدم لحضراتكم من طهران.
إخوتنا ، أخواتنا المستمعين والمستمعات !
ومن قصار كلمه سلام الله عليه والتي نلحظ فيها توظيف التشبيه بغزارة وبشكل متتال ، قوله علي دأبه في الإتيان بالتشبيهات البليغة المجملة :
"الْعَجْزُ آفَةٌ، وَالصَّبْرُ شَجَاعَةٌ، وَالزُّهْدُ ثَرْوَةٌ، وَالْوَرَعُ جُنَّةٌ ، وَنِعْمَ الْقَرِينُ الرِّضَى .
فالعجز وفتور الهمّة والتقاعس ليس كالآفة بل هو الآفة بعينها لأنّ النفس المتعلّقة بعالم المادّة والشهوات ميّالة إليه ، فهو إذن آفة يبتلي بها الكثير من الناس لأنّ القليل منهم يتمتّع بعلوّ الهمّة والسعي من أجل بلوغ المعالي وتحقيق الأهداف التي تبدو في الظاهرة عسيرة مستصعبة ، وأمّا الصبر فإنّه يتطلّب قدراً كبيراً من الشجاعة ؛ فليس كلّ إنسان قادراً علي التحلّي بصفة الصبر لأنه يتطلّب منه أن يدوس علي شهواته ولا يصغي لنداء غرائزه ، فهو إذن نوع من الشجاعة ، فيما الزهد يشكّل بالنسبة إلي الإنسان ثروة عظيمة لا تنضب لأنه يغنيه عن كلّ ثروة ، فمن خلاله يمكن للإنسان أن يستغني عن الآخرين وأن يسمو ويترفّع علي غرائزه وأهوائه الماديّة ، فهو يشبه إلي حد كبير القناعة التي قال عنها سلام الله عليه : القناعة كنز لا يفني .
وأمّا الورع فهو - أعزّتنا المستمعين - بمثابة الجُنّة والدرع التي تقي الإنسان من المخاطر التي تتهدّده ، فكما إنّ الدرع يقي الإنسان من عوامل الأذي وربّما الموت فإنّ الورع والتقوي وخشية الله والشعور في أعماق النفس بالوازع والرادع الإلهي ، كلّ ذلك هو بمنزلة الدرع الروحيّة والمعنويّة التي تحفظ الإنسان من الوقوع في مزالق الخطايا والآثام والانحرافات . وأمّا الرضي بقضاء الله وقدره فهو القرين والرفيق الأفضل الذي يساير الإنسان في حياته ، فحينما يستشعر حالة الرضا والتسليم بقضاء الله فإنه يغني نفسه بذلك من حالة التبرّم والسخط علي الإرادة الإلهيّة والتي لا طائل من ورائها سوي أن يلقي الإنسان نفسه في مشاقّ ومصاعب ومكابدات هو في غني عنها .
إخوتنا ، أخواتنا المستمعين والمستمعات !
نكتفي بهذا القدر من التجوال بين رحاب الإعجاز الأدبي والبلاغي في نهج البلاغة ضمن برنامجكم الأسبوعي علي خطي النهج ، وعلي أمل أن نستكمل هذه الجولة في عالم التشبيهات وبلاغتها في كلام الأمير (ع) ، نترككم في رعاية الله ، وإلي الملتقي .