ويصادف السابع من ذي الحجّة ذكرى أليمة على قلوب عشاق اهل بيت النبوة والرسالة سلام الله عليهم ألا وهي ذكرى شهادة الامام محمد بن علي الباقر عليه السَّلام، وبهذه المناسبة نتناول جزءا يسيرا جدا من سيرة هذا الامام الهمام سلام الله عليه :
روى الزبير بن مسلم المكي قال، كنا عند جابر بن عبد الله الانصاري من اصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ فآتاه علي بن الحسين ومعه ابنه محمد الباقر وهو صبي، فقال علي لابنه محمد ، قبَل رأس عمَك.
فدنا محمد من جابر وقبَل رأسه.
فقال جابر ، من هذا ، وكان قد كفَ (فقد) بصره.
فقال له الامام علي بن الحسين : هذا ابني محمد.
فضمَه جابر إليه وقال : يامحمد جدَك محمد رسول الله يقرئك السَّلام.
فقالوا : كيف ذلك يا أبا عبد الله.
قال : كنت عند رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ والحسين في حجره وهو يلاعبه ، فقال لي : يا جابر يولد لولدي الحسين ابن يقال له علي، ويولد لعلي ولد يقال له محمد، يا جابر إن ادركته فأقرئه مني السَّلام ، وإن لاقيته فاعلم ان بقاءك بعده قليل.
فلم يعش جابر بعد ذلك غير ثلاثة ايام.
ولقب محمد بن علي ـ عليه السَّلام ـ بالباقر، اي المتبحر بالعلم، المستخرج لغوامضه ولبابه واسراره والمحيط بفنونه.
وقد رحل الامام السجاد ـ عليه السَّلام ـ الى جوار ربه الاعلى سبحانه عام 95 هـ شهيدا مظلوما فنهض الامام الباقر عليه السَّلام بأعباء إمامة المسلمين وقد امتدت امامته تسع عشرة سنة قضي زهاء السنتين منها في حكم الوليد بن عبد الملك وسنتين في عهد سليمان بن عبد الملك - هي مدة حكمه - ثم تولى عمر بن العزيز قيادة الحكم الاموي فحدث تحول كبير في سياسة الدولة، ورغم قصر ايام الرجل المذكور في الحكم، الا ان مواقفهم من اهل البيت عليهم السَّلام كان فيها شيء من الاعتدال، إذ عمل على رفع بعض انواع الظلم الذي لحق بهم ، فرفع السبَ عن الامام امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السَّلام من على المنابر، ذلك الذي سنَه معاوية وعمَمه على الامصار، فصار سنَة يستن بها سلاطين بني امية إذ كانوا يامرون ائمة المساجد بسبَ الامام علي عليه السَّلام في خطبة الجمعة واستمر ذلك عشرات السنين حتى عهد عمر بن عبد العزيز الذي منعه.
كما اعاد فدكا - وهي منحة الرسول الاكرم صلي الله عليه وآله وسلم الي ابنته سيدة نساء العالمين فاطمة سلام الله عليها - الى الامام الباقر عليه السَّلام معتبرا امر مصادرتها من لدن الحكام السابقين لا مبرر له.
وبالنظر الى ان البيت الاموي لم يألف مهادنة اهل بيت الرسالة عليهم السَّلام، فان عمر بن عبد العزيز كان يواجه الضغط من بني امية بسبب سياسته الانفتاحية عليهم، ولم يدم حكمه اكثر من سنتين وخمسة اشهر إذ انه مات في ظروف غامضة ومشكوكه.
وتولى الحكم بعده يزيد بن عبد الملك المشهور تاريخيا بلهوه وخلاعته وغزله الماجن، وربما كان انشغاله باعماله الصبيانية ومجونه لم يعطه فرصة للتصدي لمسيرة الاسلام التاريخية التي يقودها الامام الباقر عليه السَّلام.
ثم جاء هشام بن الملك الذي تولى الحكم الاموي المنحرف بعده وغير الوضع، فقد كان خشن الطبع شديد البخل ناقما على المسلمين لاسيما من غير العرب، فضاعف من حجم الضرائب المالية عليهم واعاد ايام يزيد والحجاج الدموية، لذا تصدى له انصار اهل البيت عليهم السَّلام من خلال انتفاضة الشهيد زيد بن علي بن الحسين عليه السَّلام التي كانت صدى لثورة الحسين عليه السَّلام وامتدادا لها ، فاستشهد هو واصحابه وامر الطاغية هشام بصلب جثته ومن ثم حرقها وذر رمادها في نهر الفرات - تاريخ الاسلام / ج1.
راح هشام بن عبد الملك يلاحق انصار الامام الباقر ومريديه واحدا بعد الاخر، فاصدر امرا الى واليه على الكوفة يقضي بقتل جابر بن زيد الجعفي الذي كان من كبار العلماء ومن ابرز تلامذة الامام الباقر عليه السَّلام.
غير ان الامام الباقر عليه السَّلام قد افشل المخطط بان امر تلميذه بالتظاهر بالجنون كطريق وحيد لضمان نجاته من القتل، وهكذا كان إذ راح جابر يلعب مع الصبيان متظاهرا بالجنون، فكتب والي الكوفة الي هشام عن جابر انه ( كان رجلا له فضل وعلم وجنَ ، وهو دائر في الرحبة مع الصبيان ، وبذلك نجي جابر من القتل ).
ان هشام بن عبد الملك كان واثقا من ان مصدر الوعي الاسلامي الصحيح انما هو الامام الباقر السَّلام وان وجوده حرا طليقا يمنحه مزيدا من الفرص لرفد الحركة الاصلاحية في الامة، لذا اتجه المكر الاموي نحو اعتقال الامام الباقر السَّلام وإبعاده عن عاصمة جده المصطفي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ التي أجمعت هي والحجاز عموما على اجلاله والتمسك به.
وهكذا حمل الامام عليه السَّلام وابنه الصادق عليه السَّلام الى دمشق بامر السلطة الاموية لايقاف تاثيره في الامة المسلمة ، وأودع في احد سجون الحكم هناك.
غير ان تاثره الفكري فيمن إلتقى بهم حمل السلطة الاموية على اطلاق سراحه.
واذ لم تحقق المضايقة الاموية غاياتها الدنيئة في صد الامام الباقر عليه السَّلام عن النهوض بمهامه الرسالية العظمي فقد رات السياسة المنحرفة انه ليس لها عن اغتياله من بديل.
وهكذا دس اليه السم بواسطة إبراهيم بن الوليد بن عبدالملك بامر من هشام بن عبد الملك فرحل الى ربه الاعلى سبحانه شهيدا صابرا محتسبا يوم الاثنين السابع من ذي الحجّة سنة 114 هجريّة على المشهور، وعمره الشريف يومذاك سبعة وخمسون عاماً، فدُفن في البقيع بالمدينة خلف أبيه زين العابدين وعمّ أبيه الحسن بن عليّ عليهم صلوات الله أجمعين.
وفقدت الامة بذلك إماما من اهل بيت النبي الاكرم صلى الله عليه وآله وسلم وغصنا شامخا من هذه الشجرة الطاهرة.
فسلام عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حيا.