لانزال نحدثك عن الادعية المباركة، ومنها دعاء الامام المهدي (عليه السلام) في تعقيبه لصلاة الفطر، حيث حدثناك عن احد مقاطعه الذي يقرر على لسان القارئ للدعاء ان يطيل العمر، الى ان يقول: (وأن تغني عائلتي، وان تؤنس وحشتي، وان تكثر قلتي، وان تدر رزقي في عافيته ويسر وخفض، ... الخ)، هذه الفقرات امتداد لسابقاتها التي صيغت على هذا الاسلوب الذي يتوسل بالله تعالى بان يقوي الضعف، ويغني الفقر الخ، والسؤال الان هو: ماذا نستلهم من العبارات المتقدمة؟
العبارة الاولى تقول: (وان تغني عائلتي)، والعائلة هي من يعيلها الرجل اي يتكفل بمعيشتها، بيد ان السؤال هو: لماذا عبر عن الموضوع بكلمة (تغني) مع انه في لقاء سابق لاحظنا عبارة (وان تغني فقري)؟
اي ما هو السر الكامن وراء التفرقة بين الرجل وعائلته بحيث يتوسل الدعاء بان يغني الله تعالى كلا منهما؟، في تصورنا ان للرجل استهلاكه أو انفاقه الخارج عن نطاق عائلته كمساعدته للاخرين مثلاً، أو أسفاره او الخ، ولذلك من الممكن ان تقتصر دخول الاشخاص على ما هو ضروري له ولعائلته دون الفائض الذي ينفقه او يحتاج اليه في اسفاره الخ، وبما اننا طالما نشير الى ان الادعية تحذف في طلبها للحاجات المتنوعة: تعبيراً عن الاشارة الى ان عطاء الله من التنوع الى ما لا حدود له؟ كما هو واضح.
بعد ذلك نواجه عبارة (وان تؤنس وحشتي)، هنا نتساءل ايضاً: ماذا نستلهم من العبارة المذكورة؟
الجواب: من الممكن ان نستلهم اكثر من دلالة للعبارة المتقدمة، منها: ما يتصل بمطلق الوحشة، وهي: احساس بعزلة الشخصية وعدم ألفة الاخرين حيالها، او مطلق ما تتطلع اليه ولكنها لا تحقق اشباعاً، بيد ان استخلاصاً آخر، لعله هو الاقرب الى الذهن وهو: الاستئناس بالله تعالى قبالة من يغفل عن الله تعالى ويأنس بمتاع الحياة الدنيا.
بعد ذلك نواجه عبارة: (وان تدر رزقي)، فماذا نستلهم منها؟ ان تدفق الرزق من الممكن ان تشمله عبارات سابقة مثل: (تغني فقري)، (تغني عائلتي) الخ، ولكن مادام النص قد جعل للرزق عبارة خاصة، ثم اتبعها بالعبارات الاتية: (في عافية، ويسر، وخفض)، فحينئذ نجد انفسنا في سياق جديد من الدلالة، فما هو ذلك؟
الملاحظ: ان العبارات الثلاث (عافية، يسر، خفض) متجانسة الدلالة، فاليسر هو السهولة، والخفض هو: الصفاءة في العيش، والعافية هي: مقابل المرض، وهذا يعني: ان السياق الجديد هو: ليس مطلق الرزق الكثير ولكن مع اشمل حالات الراحة، والا فأن الرزق الكثير المصحوب بالمرض مثلاً، أو المصحوب بما يكدر العيش من مشكلات عائلية واجتماعية، ... الخ، لا قيمة كبيرة له، ولذلك تأكيداً على ما اوضحنا، قبل قليل: ان حرص المشرع الاسلامي على الانعام على العبد في اعلى تصوراته وطموحاته: يظل كاشفاً عن سعة رحمته تعالى.
بعد ذلك نواجه عبارات اخرى هي: (وان تكفيني ما اهمني من امر دنياي واخرتي، ولا تكلني الى نفسي فاعجز عنها، ولا الى الناس فيرفضوني، ... الخ)، هذه الفقرة من الدعاء تتضمن اولاً مطلق ما يعنى به قارئ الدعاء من الحاجات: دنيوياً وأخروياً وهو في الواقع تتويج لما فصل من الامور وزيادة، اي: كمن يعدد حاجات محدودة ثم يضيف الى ذلك جميع ما يحتاجه. واما العبارة الثانية في المقطع فتتضمن أهم موضوعين هما ان الانسان لا يمكنه ان يكل الامور الى نفسه لانه لا يملك لها نَفْعاً ولا ضَرّاً، وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُوراً، بل الامر كله بيد الله تعالى وتتضمن ثانياً: ان الناس ليسوا على استعداد لمساعدة الاخرين، اما لقصورهم أو تقصيرهم بحيث يعرضون الشخصية المحتاجة الى الذل من خلال رفضهم مساعدته، ولذلك قال الدعاء (فيرفضوني) اي ان الناس يرفضون مساعدته، من هنا، توسل الدعاء بالله تعالى بأن يتفضل بأن يكفيه ما أهمه العبد المتوسل، حتى لا يرتطم بعجز نفسه ورفض الاخرين لمساعدته.
اذن امكننا ان نتبين النكات المتنوعة التي استخلصناها من العبارات المتقدمة في الدعاء سائلين الله تعالى ان يمدنا برعايته، ويكفينا مايهمنا، وان يوفقنا الى ممارسة الطاعة، والتصاعد بها الى النحو المطلوب.
*******