حتي أذا الجور مد باعه، وأسفر الظلم قناعه، ودعا الغي أتباعه، وأنت في حرم جدك قاطن، وللظالمين مباين، جليس البيت والمحراب، معتزل عن اللذات والشهوات، تنكر المنكر بقلبك ولسانك، علي حسب طاقتك وأمكانك. ثم أقتضاك العلُمُ للأنكار، ولزمك أن تجاهد الفجار، فَسرت في أولادك وأهاليك، وشيعاتك ومواليك، وصدعت بالحق والبينة، ودعوتَ الي الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وأمرت بأقامة حدود الله، والطاعة للمعبود، ونهيت عن الخبائث والطغيان، وواجهوك بالظلم والعدوان، فجاهدتهم بعد الأيعاذ اليهنم، وتأكيد الحجة عليهم.
أجَرنا الله وأياكم علي حزننا علي مصاب سبطِ النبي وريحانته، الحسين أبن علي وأبن فاطمة (سلام الله عليه) وعليهم، وريث الرسول والرسالة، أحد أئمة الهدي، الذين هم مصابيح الهدي، وأعلام التقي، وذوو النهي وأولو الحجي، وكهف الوري، وورثة الأنبياء والمثل الأعلي.
*******
المحاور: ومن المدينة المنورة توجه سيد الشهداء (عليه السلام) الي مكة المكرمة ليقيم فيها عدة أشهر القي فيها عدة خطب أشهرها تلك التي ذكر فيها مسوؤلية علماء الاسلام في أنقاذ الأمة من حكم الظالمين ويتضح منها أختياره (عليه السلام) مكة المكرمة منطلقاً لدعوته الالهية فما هي سبب هذا الاختيار؟
نستمع للاجابة عن هذا السؤال من ضيف هذه الحلقة من برنامج البيان الحسيني الدكتور محمد الحبش رئيس مركز الدراسات الاسلامية من سوريا.
الدكتور محمد الحبش: عندما ينطلق عميد اهل بيت النبوة في رسالته في المقاومة فمن المنطقي ان يختار عاصمة الامة الاسلامية وهي مكة المكرمة التي انطلق منها الاسلامن المطلوب هو تصحيح مسار الامة ومن المنطقي ان يبدأ التصحيح من مكة كما بدأت الرسالة من مكة ولأجل ذلك فان الامام الحسين (عليه السلام) عندما اعلن تمرده على الظلم واعلن تمرده على هذا الانحراف الذي رآه في امة جده، كان من الطبيعي ان يلجأ الى مكة المكرمة لأن مكة فيها عدداً من الصحابة الذين كانوا لايزالون يذكرون موقف الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في الوصية بأهل بيت النبوة وايضاً لأن مكة فيها ابناء الصحابة وفيها بيت الله الحرام ومن هناك اعلن الامام الحسين ان انحرافاً خطيراً طرأ على مسار الامة وانه لابد من التصحيح واعلن انه ماض ليصحح هذه الرسالة بعدما طرأ عليها، ليصحح مسار الامة بعدما طرأ عليه من انحراف.
بالطبع الصحابة الكرام الذين كانوا في مكة المكرمة لم يكونوا جميعاً راغبين في ان يدخل الحسين عليه رضوان الله في مواجهة عسكرية كهذه ولكنهم جميعاً كانوا موقنين لأنه لابد من عمل شيء ما لتصحيح هذا الانحراف الخطير وفي النهاية فأن الخطاب الثوري للامام الحسين حفي بتأييد عدد كبير من الصحابة واعلنت مكة منطلقاً للتصحيح التي قادها الامام الحسين من مكة بأتجاه ارض العراق وهناك في كربلاء رسم بالدم رسالة المقاومة والثبات على الحق ورفض الظلم والباطل وكانت مدرسة كربلاء، اذن الجهود التي قام بها الامام الحسين صوب كربلاء كانت واضحة تماماً، الرجل كان ماضياً الى مركب الشهادة ولم يكن يبالي بأن يقدم روحه رخيصة في سبيل تصحيح مسار هذه الامة، بالطبع جرب الامام الحسن قبله الصلح مع البيت الاموي وجرب بالتالي سبيل التعاون مع حكومة الوضع الراهن ولكن للاسف لم تجدي هذه السياسة نتائج حقيقية وبعد سنوات قليلة من الاستقرار عادت المسائل ليعلن عن مزيد من الانحراف عن خط الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الامر الذي استدعى قيام الامام الحسين بثورته التطهيرية بالطبع اعلنها من مكة كما اعلن جده (صلى الله عليه وآله وسلم) تصحيح مسار ابراهيم من ارض مكة المكرمة وتماماً كما تحتاج الامة على رأس كل مئة سنة لمن يجدد لها امر دينها اذ تحريف الغالين وتأويل الجاهلين وانتحال المبطلين كانت الامة تحتاج الى الحسين ليجدد لها امر دينها وينفي عنها تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين وهكذا كانت هذه المدرسة العظيمة مدرسة الشهادة.
*******
كتب الخوارزمي الحنفي في مقتل (الأمام الحسين (عليه السلام)) بعد ذكره وصية الأمام الحسين (عليه السلام): ثم طوي الحسين كتابه هذا وختمه بخاتمِه، ودفعه، الي أخيه ِ محمد أبن الحنفية، ثم ودعه وخرج في جوف الليل يريدُ مكة في جميع أهل بيته، وذلك لثلاث ليال مضين من شعبان سنة ستين، فلزم الطريق الأعظم، فجعل يسير ويتلو هذه الآية: «فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ».
تلك قصة خروج موسي (عليه السلام)، خاف أن يظفر به الظالمون، فكانت منه الهجرة ليواصل جهاده النبوي من موقع آخر والأمام الحسين (صلوات الله عليه) حفيد المصطفي وسُبطه، وشبل ُ أمير المؤمنين مُجدل الأبطال، هو أكبر وأشجع من أن يخاف أحداً الا الله تبارك وتعالي، ولكنه خَشيَ الغدر الأموي المرواني في مؤامرة خبيثة وقتلة باردة تعتم علي المسلمين، ولا تعود علي الأسلام بما يُرجي ويراد، فيذهب دمه حيفاً وهدراً.
وقد أكد الخبر كلٌّ من: أبي مِخنَف في (وقعة الطف)، وأبن ِأعثم الكوفي في الفتوح، والشيخ المفيد في الأرشاد، والطبري في (تاريخه)، وذكروا أنه (عليه السلام) لَزِم الطريق الأعظم قائلاً: لا اله الا والله لا فارقت هذا الطريق أبداً، أو أنظر الي أبيات مكة أو يقضيَ الله في ذلك ما يحبُ ويرضي، وفي رواية أنه (عليه السلام) قال: (لا والله، لا أفارقه حتي يقضيَ الله ما هو قاض).
فأين الخوف يا تري وقد أعد الأمام الحسين ركبه الشريف أمام الملأ، وأتخذ طريقه علي الجادة العامة المعلومة وقد ُأُقترِحَ عليه أن يعدل عنها لئلا يطلبه الأعداء فيها فأبي؟
في (ناسخ التواريخ) للمؤرخ محمد تقي سِپِهر لسان المُلك، (وينابيع المودة) للقندوزي الحنفي، و(وقعة الطف) لأبي مخِنف أن الحسين (عليه السلام) لما خرج من المدينة وركب الجادة العظمي، قال له البعض: لو سلكت الطريق الآقرع (أي غير المعهود، والخالي من المارة والمسافرين)، لكان أصلح.
فقال لهم (عليه السلام) يسالهم وهو الأعلم (أتخافون الطلب؟): أي تخافون أن يتعقبنا من يريد ردنا وقتلنا؟
قالوا: أجل.
فقال (عليه السلام) يجيبهم: أخاف أن أحيد الطريق حذر الموت؟ ثم أنشأ يقول:
أذا المرء لا يحمي بنيه وعِرضه
وعترته كان اللئيم المسبباً
ومن دون ما ينعي يزيد بنا غداً
نخوض بِحار الموت شرقاً ومغرِباً
ونضربُ ضرباً كالحريق مُقدما
أذا ما رآه ضيغم فَر مَهربا
ويمضي أبو عبد الله الحسين (عليه السلام) ومعه البيان الالهيّ في جميع فقراته وإشعاعاته، ويسير الي مكة فيستقبله عبد الله بن مطيع العدويّ فيساله: أين تريد يا أبا عبد الله جعلني الله فداك؟
فأجابه هكذا: (أمّا في وقتي هذا أريد مكة، فإذا صرت اليها استخرت الله تعالي في أمري بعد ذلك)، هكذا روي البلاذري في (أنساب الأشراف)، والخوارزميّ في المقتل الحسينيّ، لكنّ الدّينوريّ روي في (الأخبار الطّوال) أنّه (عليه السلام) قال له: (يقضي الله ما أحبّ)، فيما روي الطبريّ في (تاريخه) وابن الأثير في (كامله)، أنّه (سلام الله عليه) أجاب ابن مطيع بقوله: (أمّا الآن فمكة، وأمّا بعد فإنّي أستخير الله).
وفي (الطبقات الكبري) لابن سعد، و(تاريخ مدينة دمشق) لابن عساكر، و(تاريخ الإسلام) للذهبيّ. أنّ ابن مطيع العدويّ قال للحسين (عليه السلام): أين فداك أبي وأميّ؟! لا تسر اليهم. فأبي الحسين (عليه السلام).
وقبل أن يودّع المدينة، مكث عند قبر جدّه رسول الله (صلي الله عليه وآله)، يزوره وقد عزّ عليه فراقه، فأسبل عينيه الكريمتين للدموع، ثمّ نهض فصلّي ركعات، فإذا فرغ من صلاته جعل يقول: (اللهم هذا قبر نبيّك محمّد (صلي الله عليه وآله)، وأنا ابن بنت نبيّك، وقد حضرني هذا الأمر ما قد علمت، اللهمّ إنيّ أحبّ المعروف وأنكر المنكر، وإنّي أسالك يا ذا الجلال والإكرام، بحقّ هذا القبر ومن فيه، الا اخترت من أمري ما هو لك رضي، ولرسولك رضي، وللمؤمنين رضي).
فكان الإمام الحسين في خروجه المثل الأعلي والمثال الأسمي في الهجرة إذا أرادت الدنيا الزائلة للمؤمنين ذلّة وهواناً وبرماً، وهو القائل ناصحاً:
ودنياك التي غرّتك منها
زخارفها، تصير الي انجذاذ
تزحزح عن مهالكها بجهد
فما أصغي اليها ذو نفاذ
لقد مزجت حلاوتها بسمّ
فما كالحذر منها من ملاذ
عجبت لمعجب بنعيم دنيا
ومغبون بأيّام لذاذ
ومؤثر المقام بأرض قفر
علي بلد خصيب ذي رذاذ
وخلاصة الحديث في هذا اللقاء هو أن سيد الشهداء (عليه السلام) إختار الهجرة من المدينة المنورة بعد رفضه مبايعة الطاغية يزيد لكي لا يقتل فيها غيلة قبل أن يبلّغ رسالته للعالمين وإختار مكة المكرمة لتكون منطلقاً لتبليغ هذه الرسالة التي ختم بيانها في كربلاء وبقيت أصداؤها تتردد في الأسماع علي مدي الأجيال.
*******