أشهدُ أنّك أقمتَ الصَّلاة، وآتيت الزكاة، وأمرتَ بالمعروف، ونهيتَ عن المنكرِ والعدوان، وأطعت الله وما عصيتَه، وتمسّكتَ بهِ وبحبلِه فأرضَيتَه، وخَشيتَه وراقبتَه واستَحييتَه، وسَنَنتَ السُّنَن، وأطفأتَ الفتن، ودعوتَ إلي الرشاد، وأوضحتَ سُبُلَ السّداد، وجاهدتَ في اللهِ حقَّ الجهاد، وكنتَ للهِ طائعاً، ولجدّك محمّدٍ (صلّي الله عليهِ وآلِه) تابعاً، ولقولِ أبيك سامعاً، وإلي وصيّةِ أخيك مُسارعاً، ولعمادِ الدّينِ رافعاً، وللطُّغيانِ قامعاً، وللطُّغاةِ مُقارعاً، وللأُمّةِ ناصحاً، وفي غَمراتِ الموتِ سابحاً، وللفُسّاقِ مُكافحاً، وبحُجَجِ اللهِ قائماً، وللإسلامِ والمسلمينَ راحماً، وللحقِّ ناصراً، وعندَ البلاءِ صابراً، وللدّينِ كالئاً، وعن حوزتِهِ مُرامياً، تحُوط الهُدي وتنصُرُه، وتبسُطُ العدلَ وتنشُرُه، وتنصُرُ الدِّينَ وتُظهِرُه.
السلامُ عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاتُه، أجَرَكم اللهُ تعالي وآجَرَنا بمصابنا جميعاً بسيّد الشهداء أبي عبد اللهِ الحسين (صلواتُ اللهِ عليه)، الذي أفجَعَ فقدُه جميعَ المُوالين لبيت رسول الله (صلّي الله عليهِ وآلِه)، بل كان خروجُه (سلامُ الله عليه) من المدينة مُنذراً بالفجيعة، فوقفَ له البعض وقد أنسَتهُم وحشةُ فراقِه أنّه إمامُهم، وهو أدري بما ينبغي، وقفوا يُبدون له النصائح، وربّما أعربوا بذلك عن حبّهِمِ له أو خشيتِهم عليه، وقلقِهم من يزيدَ الذي لا يتورّع عن قتل النَّفسِ المحرَّمة، والمحتَرَمة.
فأتاه أبو بكر بنُ عبدِ الرحمانِ بنِ الحارث يقول له: ما أدري كيف أنا عندك في النصيحة لك؟
فأجابه الحسينُ وهو المُشفِقُ علي هذه الأُمّة يُريد خيرَها ونصيحتَها وإنقاذَها: (يا أبا بكر، ما أنتَ ممّن يُستَغَشّ ولا يُتـّهَم، فقُل).
فتكلّمَ أبوبكرِ بنُ عبد الرمان بما يري، فقال له الحسينُ (عليه السلام): (جزاك اللهُ يا ابنَ عمٍّ خيراً، فقدِ اجتهدتَ رأيك، ومهما يقضِ اللهُ من أمرٍ يكن).
فتوجّس أبوبكرٍ خيفةً وتوقّع المصيبةَ فقال: إنّا لله! عندَ الله نحتسبُ أبا عبد الله.
إنّ الإمامَ الحسينَ (عليه السلام) كان يعلم ما جري وما سيجري، ولكنّه كان يعلم أيضاً أنّ أمراً إلهيّاً لابدّ أن يجري، فهناك نداءٌ ربّانيّ لم يسمَعه إلاّ الحسين، ولم يستطع تلبيته إلاّ الحسين، بل وليس له إلاّ الحسين، صلواتُ ربّنا عليه. وكان يُخبِر به ويُنبئُ الناس به، كما كان (عليه السلام) يشير إلي الغيب الإلهيّ، أنّ دعوةً ربّانيّةً دَعَته إلي الشهادة، تلك التي تعيّنت وحدها أن تنقذ الإسلام والمسلمين معاً، وأن ينال بها الحسين درجةً عليا وأعلي، في درجات القرب الأسمي. أنّه السرُّ الذي حيرّ العقول فلم تفهمه في حينه، حتي تعاقبت الأياّمُ والسنوات، وتوالتِ الأجيال، وحتي مضي الدّين مرّةً أخري يحيا في حياة الأمّة، وأخذت قيمُه ومفاهيمُه تعلو وتسمو وتشعّ أنوارُها ببركة التضحية الحسينيّة التي سبقتها بياناتٌ سامقة، كان منها وصيّةُ الإمام الحسين (عليه السلام) إلي أخيه محمّد ابنِ الحنفيّة، فماذا جاءَ فيها يا تري؟
في مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب، والفتوح لابن أعثم الكوفيّ، ومقتل الحسين (عليه السلام) للخوارزميّ الحنفيّ، وبحارالأنوارللشيخ المجلسيّ، أن الإمام الحسين (عليه السلام) دعا بدواةٍ وبياض، وكتب هذه الوصيّةَ الشريفةَ لأخيه محمّد ابن الحنفيّة: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هذا ما أوصي به الحسينُ بن عليّ بن أبي طالب، إلي أخيهِ محمّدٍ المعروفِ بابنِ الحنفيّة: أنّ الحسينَ يشهدُ أن لا إله إلاّ اللهُ وحدهُ لا شريك له، وأنّ محمّداً عبدُه ورسولُه، جاء بالحقّ من عندِ الحقّ، وأنّ الجنّة والنار حقّ، وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لّا رَيْبَ فِيهَا، وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ، وأنّي لم أخرج أشراً، ولا بَطِراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجتُ لطلبِ الإصلاحِ في أمّةِ جدّي (صليّ الله عليه وآله)، أُريدُ أن آمُرُ بالمعروف وأنهي عن المنكر، وأسير بسيرة جدّي، وأبي عليّ بن أبي طالبٍ (عليهما السلام). فمن قبلني بقولِ الحقّ، فاللهُ أولي بالحقّ، ومن ردّ عليّ هذا أصبِرُ حتيّ يقضي اللهُ بيني وبينَ القومِ بالحقّ، وهو خيرُ الحاكمين.
وهذه وصيّتي إليك يا أخي، وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ).
ثمّ طوي الحسينُ (عليه السلام) الكتابَ وخَتَمه بخاتَمِه، ودفَعَه إلي أخيه محمّد، ثمّ ودَّعَه وخرج في جوفِ اللّيل.
*******
المحاور: وكما تلاحظون فإن الإمام الحسين (عليه السلام) حدد الهدف الأول لنهضته المقدسة بعبارة (طلب الإصلاح في الأمة المحمدية) فما هو المقصود بذلك؟
نستمع معاً لما يقوله سماحة الشيخ خضر الكبش عضو لقاء الجمعيات والشخصيات الاسلامية في لبنان:
الشيخ خضر الكبش: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا وحبيبنا محمد وعلى آله اجمعين.
وبعد ان الحسين (عليه السلام) الذي اراد ان يخرج للاصلاح في دين جده محمد (صلى الله عليه وعلى آله وسلم)، عندما نتحدث عن الاصلاح في اي مجتمع من المجتمعات معنى ذلك ان الفساد قد عم وان الشر قد طم لذلك ورد عن الحسين (عليه السلام) انه قال: «ايها الناس ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرام الله ناكثاً عهده مخالفاً لسنة رسول الله يعمل في عباد الله في الاثم والعدوان فلم يغير عليه بفعل ولا قول كان حقاً على الله ان يدخله مدخلاً، الا وان هؤلاء قد لزموا الشيطان وتركوا طاعة الرحمن واظهروا الفساد وعطلوا الحدود واستأثروا بالفئ واحلوا حرام الله وحرموا حلاله وانا احق ممن غير». نعم ان الحسين (عليه السلام) خرج للاصلاح في دين جده محمد (صلى الله عليه وعلى آله وسلم)، كان لا يلتفت الى الدنيا ومتاعها كان لا يبحث عن زعامة ولا عن سيادة ولا عن ريادة ولا عن قيادة والسؤال الذي يطرح نفسه والسؤال الذي لطالما طرحه المؤرخون عبر التاريخ وحتى بعض محبي الامام منذ اللحظة الاولى لمعارضته للخليفة الجديد، اجاب عنه الامام الحسين بأجابات مختلفة بأختلاف السائلين وجميع هذه الاجابات تنطوي على محتوى واحد فتارة علل خروجه الامام للامر بالمعروف والنهي عن المنكر لقوله: «اني اريد ان آمر بالمعروف وانه عن المنكر واسير بسيرة جدي» وتارة اخرى بأحياء سنة جده رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأن السنة قد اميتت والبدعة قد احييت وتارة ثالثة يعزو قيامه الى وجود يزيد على رأس الخلافة الاسلامية ويزيد كما هو معلوم للقاصي والداني رجل شارب للخمر قاتل للنفس معلن بالفسق جاهراً له لذلك اذا جمعنا جميع هذه الاسئلة نرى ان الامر عند الحسين (عليه السلام) هو ان يقوم بنهضة جديدة، هذه النهضة عنوانها الاصلاح، عنوانها الاقتداء بجده (صلى الله عليه وآله وسلم) لذلك كان كلامه وكان قوله المشهور: «اني لم اخرج اشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً انما خرجت لطلب الاصلاح في امة جدي، اريد ان آمر بالمعروف وانه عن المنكر واسير بما سار عليه جدي محمد (صلى الله عليه وآله)، اريد ان اسلك الطريق طريق والدي امير المؤمنين (عليه السلام)» وهنا لم يعد امام الحسين (عليه السلام) في مقابل هذا التحدي الصارخ الا ان يعدل عن موقفه من يزيد وسلطانه وسلطته وعن تصميمه على الثورة مهما كانت االتضحيات وقد اصبح وجهاً لوجهه امام دوره التاريخي الذي يتحتم عليه ان يقمعه فوثب عن ذلك ليعلن عن ما ينطوي عليه بكل ما في الصراحة من معنى وقال له: «ويلي عليك يابن الزرقاء انت تأمر بضرب عنقي كذبت ولؤمت» ثم اقبل على الوليد وقال: «ايها الامير انا اهل بيت النبوة ومعدن النبوة ومختلف الملائكة بنا فتح الله وبنا ختم ويزيد فاسق فاجر شارب للخمر وقاتل للنفوس المحترمة ومحلل لجميع الحرومات ومثلي لا يبايع مثله» نعم لقد كانت مواجهة الحسين (عليه السلام) وكانت هذه الشهادة، الشهادة العظيمة التي نعيش ايامها، كانت هذه الشهادة حياة للامة لكي تعلم هذه الامة، الامة الاسلامية، الامة المحمدية ان الباطل للزوال وان الحق هو الذي ينتصر.
*******
إنّ ذاك الأمرَ الخطير، وتلك المهمّة العظمي، لا يستطيع أن ينهض بهما إلاّ نبيّ، أووصيُّ نبيّ؛ لأنّهما يتطلّبانِ بالضرورة علماً مستوحيً من الله جلّ وعلا بالدّينِ وأحكامه الإلهيّة، ومنها الجهادُ الحقّ، في زمانه، وفي مكانه، بما يناسب ويعود علي الإسلام بالخيروالنفع والحياة. كما يتطلّبانِ همّةً عليا مقرونةً بالبصيرةِ الإلهيّة، وذاك وذلك ليسا مماّ تيسّر لأحدٍ إلاّ المولي الحسينِ في زمانه، فنهَضَ (سلامُ الله عليه) وقام للهِ عزّوجلّ وهويقول: (إنّما خرجتُ لطلبِ الإصلاحِ في أُمّةِ جدّي (صلّي الله عليه وآله)، أُريدُ أن آمُربالمعروف، وأنهي عن المنكر، وأسيرَ بسيرةِ جدّي وأبي). ولا يخفي علي العقلاء أنّ من مغزي السبط الشهيد أبى عبد الله الحسين سلامُ ربّنا عليه في بيانه المقدّس هذا - وقد أوَدَعه وصيّتَه الشريفة-، أنّه أراد - فيما أراده- أن يهتفَ بغايته الكريمة من نهضته الإلهيّة المقدّسة، وأن يعرّف الملأَ هدفَه، من مبدأ أمرِه إلي منتهاه. ولم يبرح عليه أفضلُ الصلاةِ والسلام يواصل ذكرِ هذا المعني الرفيع إلي حينِ شهادته، دحضاً لتموهياتِ الاعداء، وقتلاً لوساوس الواهمين، وإبطالاً للتشكيكات، وكشفاً لما يخبئُ الدهرُ من وقائعَ قادمة. وقد حقّ في أهل البيت (عليهم السلام) أن نخاطبَهم بالزيارة الجامعة: (كلامكم نور، وأمرُكم رشد، ووصيتُكمُ التقوي، وفعلُكم الخير، وعادتُكمُ الإحسان، وسجيّتكم الكرَم، وشأنُكم الحقُّ والصّدقُ والرِّفق، وقولُكم حُكمٌ وحتم، ورأيُكم علمٌ وحلمٌ وحزم). ولذلك حسَدَهم الأدعياء، فقاتلوهم، وقتلوهم، وكانت الوقائع، ونزلَتِ الفجائع، ومنها في الحسين وآله، أرادوا إذلالَه فأبي وكان له عزُّ الدهر وكرامة الوجود، ونُصرة الحقّ والدّين.
أراد ابنُ هندٍ خابَ مسعاه أن يري
حسيناً بأيدي الضَّيمِ تلوي شكائمُه
ولكن أبي المجدُ المؤثَّلُ والإبا
له الذُّلَّ ثوباً والحُسامُ يُنادِمُه
أبوهُ عليٌّ، وابنةُ الطُّهرِ أمُّهُ
وطه له جدٌّ، وجبريلُ خادمُه
فمن دونِ دينِ اللهِ جادَ بنفسِهِ
وكلِّ نفيسٍ.. كي تُشادَ دعائمُه
فإن يمسِ فوقَ التُّربُ عُريانَ لم يُقَم
له مأتمٌ تبكيهِ فيه محارمُه
فأيُّ حشيٍ لم يُمسِ قبراً لجسمهِ
وفي أيّ قلبٍ ما أُقيمت مآتِمُه؟!
وكان أن أصبح الحسين (عليه السلام) بنهضته المباركة مصباح الهداية الذي يستلهم منه طلاب الإصلاح الذاتي والإجتماعي قيم الشريعة المحمديّة.
*******