إن العلاقات بين الدول الأوروبية والولايات المتحدة، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، تحولت إلى أحد الأعمدة الأساسية للنظام العالمي. هذا الارتباط الذي عُرّف في إطار شراكة استراتيجية، تعود جذوره إلى إعادة إعمار أوروبا عبر خطة مارشال وتأسيس حلف شمال الأطلسي (الناتو).
إلا أنّ هذه الشراكة كانت في الغالب غير متكافئة. فالمعطيات التاريخية والراهنة تُظهر أن الأوروبيين في القرارات الكبرى على الساحة الدولية – ولا سيما في ما يتعلق بالاتفاق النووي الإيراني وتفعيل آلية الزناد في عام 2025 – كانوا إما تحت تأثير أو تحت ضغط الولايات المتحدة.
ترجع تبعية أوروبا لواشنطن إلى التحولات التي تلت الحرب العالمية الثانية. فقد ضخّت خطة مارشال بين عامي 1948 و1952 نحو 13.3 مليار دولار (ما يعادل 133 مليار دولار بقيمة 2024) في اقتصادات أوروبا الغربية. ولم تقتصر آثارها على إعادة البناء، بل أسست كذلك لنفوذ جيوسياسي أمريكي عميق. على سبيل المثال، ضغطت واشنطن على الأوروبيين للتحول من الفحم إلى النفط، ومنعت تمويل بناء مصافي أوروبية من قِبل شركات مستقلة.
كما أن تأسيس الناتو عام 1949 وضع أوروبا تحت المظلة الأمنية الأمريكية، حيث قبلت الدول الأوروبية بالخضوع للقيادة العسكرية الأمريكية، لكون التنسيق فيما بينها صعبًا بسبب خلافاتها الداخلية.
هذا الارتباط البنيوي جعل القارة العجوز عرضة للضغوط الأمريكية. ففي غزو العراق عام 2003، شاركت بريطانيا رغم المعارضة الداخلية ورفض دول أوروبية كفرنسا وألمانيا، ما عكس تغليب المصالح الأمريكية على استقلالية القرار الأوروبي.
الأمر تكرر في أزمة أوكرانيا منذ 2022، حيث فرضت أوروبا – بضغط أمريكي – عقوبات على روسيا أضرّت باقتصاداتها، خصوصًا في قطاع الطاقة. يمكن تفسير هذا النمط في ضوء نظرية الهيمنة لدى أنطونيو غرامشي وروبرت كوكس، حيث تُمارَس الهيمنة الأمريكية عبر القوة الصلبة (العسكرية والاقتصادية) والناعمة (الثقافية والسياسية)، بينما تجد أوروبا نفسها مضطرة للتماهي بسبب تبعيتها البنيوية.
هذا التبعية بدت أوضح في ملف الإتفاق النووي. فالانسحاب الأمريكي الأحادي من الاتفاق في مايو 2018 – في عهد دونالد ترامب – كان خرقًا لقرار مجلس الأمن 2231، الذي صادق على الاتفاق وألزم جميع الأطراف بالالتزام به.
ترافق ذلك مع سياسة "الضغوط القصوى" لإضعاف اقتصاد إيران ودفعها لتفاوض جديد. ورغم إعلان فرنسا وألمانيا وبريطانيا تمسكها بالاتفاق، فإنها عجزت عن تفعيل آليات مثل "إينستكس" لمواجهة العقوبات الأمريكية.
وفي أغسطس 2025، أرسلت هذه الدول الثلاث رسالة إلى مجلس الأمن لبدء تفعيل آلية الزناد، ما يفتح الباب لعودة العقوبات الأممية على إيران. وقد جاء هذا القرار بعد شهرين فقط من الهجمات الأمريكية والإسرائيلية على المنشآت النووية الإيرانية في يونيو 2025، وهو ما يعكس انسجام أوروبا مع التصعيد العسكري غير القانوني الذي قادته واشنطن.
جدير بالذكر أنّ وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو رحّب في 28 أغسطس بخطوة الأوروبيين، معتبرًا إياها جزءًا من سياسة "الضغوط القصوى" في إدارة ترامب الثانية، بل وأكد أنها نُفذت وفق توجيه مباشر من الرئيس بموجب مذكرة الأمن القومي رقم 2 الصادرة في 4 فبراير 2025. وهو ما يعني، باعتراف واشنطن نفسها، أن أوروبا لا تتحرك كلاعب مستقل بل منسقة أو خاضعة للولايات المتحدة.
تاريخيًا، لم تحترم أمريكا الاستقلالية الأوروبية. ففي فضيحة تجسس وكالة الأمن القومي عام 2013 على قادة أوروبيين، بينهم أنجيلا ميركل، لم تُبد أوروبا ردًا حازمًا. وفي مفاوضات اتفاقية التجارة الحرة (TTIP)، فرضت واشنطن شروطًا لصالح شركاتها متجاهلة هواجس أوروبا البيئية والعمالية.
كذلك، العقوبات الثانوية الأمريكية ضد الشركات الأوروبية المتعاملة مع إيران، جرّدت أوروبا من استقلالها الاقتصادي. أما تأييدها الضمني للهجمات الأمريكية والإسرائيلية على إيران في يونيو 2025، فقد وصفه المستشار الألماني بأنه "العمل القذر" بالوكالة عن الغرب، ما شكّل اعترافًا بدور تابع في خدمة سياسات واشنطن.
هذا السلوك يمكن فهمه وفق نظرية "الواقعية الهجومية" لجون ميرشايمر، التي تفترض أن القوى الكبرى تحافظ على هيمنتها عبر إبقاء الحلفاء تحت السيطرة ومنع استقلاليتهم.
توجد عوامل بنيوية عديدة تعزز هذه التبعية. فالناتو، باعتباره ركيزة أمنية لأوروبا، يعمل بقيادة أمريكية ويجعلها رهينة لضغوط واشنطن. كما أنّ الدولار، بصفته العملة المهيمنة عالميًا، يمنح أمريكا سلاح العقوبات الثانوية، وهو ما بدا في الإتفاق النووي حين امتنعت الشركات الأوروبية عن التعامل مع إيران خوفًا من العقوبات الأمريكية.
تسنيم