اثناعشر يوماً كانت كافية لتعصف بالكيان الإسرائيلي على جميع الأصعدة، العسكرية والأمنية والإجتماعية والسياسية، والأخطر والأهم، الإقتصادية. ففي ظل الحرب التي شنّها الكيان على إيران التي قوبلت بردّ إيراني صاعق، والتصعيد الإسرائيلي المستمر مع إيران، يجد الاقتصاد الإسرائيلي نفسه عاجزاً عن تحقيق أي تقدم، متراجعاً بشكل حاد حتى عاد إلى نقطة البداية التي كان عليها قبل عام كامل، إذ تؤكد الأرقام الرسمية أن هذه المواجهة الدامية ألقت بظلالها الثقيلة على كافة القطاعات الاقتصادية، مما يعكس هشاشة النظام الاقتصادي الإسرائيلي أمام التحديات الإقليمية المتصاعدة.
في ظل تصاعد التوترات السياسية والعسكرية التي تشهدها المنطقة ككل، تحمل الأزمات المتلاحقة تأثيراً بالغاً على الاقتصاد داخل الكيان الذي يعاني من آثار النزاعات أكثر من أي وقت مضى. فبحسب أحدث البيانات الاقتصادية التي نشرتها دائرة الإحصاء المركزية الإسرائيلية للربع الثاني من عام 2025، ظهر بوضوح أن الناتج المحلي الإجمالي في الكيان الإسرائيلي شهد تراجعاً ملموساً، يعكس حجم الضرر الذي خلفته الحرب الأخيرة مع إيران. هذا التراجع الذي يقارب فقدان عام كامل من النمو الاقتصادي، يكشف هشاشة الاقتصاد الإسرائيلي ويضع أمام حكومة نتنياهو تحديات جمة، في وقت يعاني فيه الاقتصاد من اعتماد كبير على الخارج وقيود عديدة تقف في طريق تعافيه.

أرقام مؤلمة... الاقتصاد الإسرائيلي ينزلق نحو التراجع الحاد
بيانات رسمية تشير إلى انخفاض الناتج المحلي الإجمالي بمعدل 3.5% خلال الربع الثاني من 2025 مقارنة بنفس الفترة من العام السابق، ويُعد هذا الرقم سقوطاً فعلياً لا مجرد تباطؤ. ليس ذلك فحسب، بل شهد القطاع التجاري، الذي يعتبر المحرك الرئيسي للنشاط الاقتصادي في الكيان، هبوطًا حادًا وصل إلى نحو 7%. أما الاستهلاك الخاص، والذي يعبر بشكل مباشر عن مستوى معيشة المستوطن، فقد انخفض بأكثر من 5% خلال نفس الفترة، في حين شهدت الاستثمارات، خصوصاً في قطاع البناء، انهياراً حاداً مما يعكس أزمة ثقة عميقة في السوق المحلي.
ما يجعل هذه الأرقام أكثر إثارة للقلق هو أن الاقتصاد الإسرائيلي لا يزال يعاني من نمو شبه صفري، وهذا رغم أنه لم يدخل رسمياً في حالة ركود تقني يُعرف بتسجيل نمو سلبي في ربعين متتاليين. وبحسب بيانات الربع الثالث الأولية، يُتوقع أن يشهد الاقتصاد تعافيًا محدودًا، لكن المعدلات المتوقعة للنمو في 2025 ككل لا تتجاوز 3%، وهو رقم ضعيف يعكس واقعًا اقتصاديًا هشًا.
الحرب مع إيران: تأثير مباشر وعميق
لا يمكن فهم هذا التراجع إلا في سياق المواجهة العسكرية التي جرت مع إيران، والتي استمرت أسبوعين وأثرت بشدة على النشاط الاقتصادي. وفقًا للبيانات، فإن الناتج المحلي الإجمالي للفرد عاد إلى مستواه قبل عام كامل، ما يعني تراجعاً في مستوى المعيشة والرفاهية الاقتصادية. وهذا يعكس الخسائر الحقيقية التي تسببت بها الحرب، والتي لم تترك الاقتصاد بمنأى عن تبعاتها.
القطاع التجاري، الذي يتحمل العبء الأكبر، تضرر بشدة، فقد تراجع نحو 7% ، وهو رقم يعادل تقريباً ضعف معدل التراجع العام. هذه النتيجة تشير إلى انخفاض حاد في عمليات البيع، الإنتاج، والتبادل التجاري المحلي. لكن هناك نقطة تستحق الملاحظة، وهي أن مقارنة الأداء بالربع الثاني من 2024 تظهر بعض المؤشرات على نمو طفيف، ما يعني أن الأزمة الحادة كانت مرتبطة أكثر بالربع الأول من 2025 الذي شهد نشاطاً اقتصادياً طبيعياً قبل اندلاع الحرب.

الأداء الاقتصادي لا يعكس فقط الحرب
بالرغم من أن المواجهة مع إيران كانت العامل المحوري في الانكماش الاقتصادي، إلا أن المشكلة أعمق وأشمل. فالعوامل الهيكلية التي يعاني منها الاقتصاد الإسرائيلي مثل الاعتماد الكبير على الواردات، التحديات في قطاع البناء، وضعف الاستهلاك الخاص، كلها تلعب دورًا مهمًا في تفسير الصورة الكلية.
وبينما توقع بنك "جي. بي. مورغان" في بداية الربع أن يكون الانكماش محدودًا عند 0.5%، كشفت الأرقام الفعلية أن الانخفاض ضعف هذا الرقم تقريبًا. ويُعد ذلك مؤشرًا على أن الأزمة الاقتصادية قد تكون أعمق مما هو متوقع، مع احتمال تعديل توقعات النمو للعام 2025 بشكل سلبي.
استهلاك المستوطن: مؤشر رئيسي على مستوى المعيشة
من أبرز المؤشرات التي تعكس تأثير الأزمة على حياة الإسرائيليين هو الانخفاض الكبير في الاستهلاك الخاص للفرد، الذي هبط بنسبة تزيد على 5% سنويًا. هذا يعني أن المستوطنين الصهاينة صاروا يستهلكون أقل، سواء من حيث الغذاء، المشروبات، التبغ، الخدمات الشخصية، السكن، أو الوقود. وبرزت أيضاً تراجعات في الإنفاق على السلع المعمرة مثل السيارات والأجهزة الكهربائية، والتي انخفضت بنحو 10%، وهو رقم يكشف عن تراجع ثقة المستهلكين في القدرة الشرائية والظروف الاقتصادية المستقبلية.
على الرغم من هذا التراجع العام، شهد الإنفاق على السيارات الخاصة ارتفاعاً ملحوظًا بنحو 70% سنويًا، وهو ما قد يعكس توجهاً خاصاً أو تحولات في أنماط الاستهلاك لدى شريحة معينة من السكان، وربما تعويضًا مؤقتاً على حساب بنود أخرى.
أما استهلاك السلع شبه المعمرة، والتي تشمل الملابس والأحذية والأدوات المنزلية والسلع الترفيهية، فقد شهد تراجعًا حادًا يصل إلى 35%، وهو مؤشر قوي على أن الأسر الإسرائيلية تقلصت من نفقاتها على الكماليات والمنتجات غير الأساسية.
انهيار الاستثمارات في البناء... ورغم ذلك هناك قطاعات تشهد نموًا
أما بالنسبة لقطاع الاستثمار في الكيان، فهو يعاني بدوره بشدة، حيث انخفض إجمالي الاستثمارات بنسبة 12%، مع انهيار ملحوظ في قطاع البناء. فالاستثمارات في البناء السكني هبطت بنسبة 18%، وأكثر من 25% في البناء غير السكني، مما يعكس أزمة ثقة حقيقية في السوق العقاري ونقصاً في اليد العاملة.

الصادرات الإسرائيلية بين التراجع وبريق الأمل!!!
الصادرات، والتي تعتبر من محركات الاقتصاد الأساسية، شهدت تراجعاً بنسبة 7% في الربع الثاني، وهذا مؤشر سلبي بالتأكيد. ولكن عند استبعاد تأثيرات قطاع الألماس وشركات التكنولوجيا الناشئة، يتضح أن التراجع الحقيقي لا يتجاوز 3.5%، وهو تراجع أقل حدة ويشير إلى أن الصادرات لا تزال تلعب دورًا مهماً في دعم الاقتصاد.
يُضاف إلى ذلك أن صادرات السلاح والتكنولوجيا المتقدمة تواصل أداءها بشكل إيجابي نسبيًا، مما يعزز موقف الكيان الاقتصادي على المدى المتوسط.
الاقتصاد الإسرائيلي بلا اكتفاء: اعتماد مفرط وضعف مكشوف
في ظل ضعف النمو المحلي، يظهر الاعتماد الكبير على الواردات كأحد أبرز نقاط الضعف في الاقتصاد الإسرائيلي. فقد ارتفعت الواردات بشكل طفيف، حتى مع تراجع استيراد الخدمات، خصوصًا السياحة التي تضررت جراء الحرب وإغلاق مطار بن غوريون. وهذا يعني أن نحو 21% من مجمل العرض المحلي يأتي من الخارج، وهو معدل مرتفع يضع الاقتصاد الإسرائيلي في موقف هش أمام أي قرارات مقاطعة أو إلغاء اتفاقيات تجارية.
في هذا السياق، يصبح الاقتصاد الإسرائيلي عرضة بشكل كبير لأي صدمات خارجية، سواء كانت سياسية أو اقتصادية، وهو ما يجعل من أمر المحافظة على الاتفاقيات التجارية الدولية، خاصة مع أوروبا، أمراً بالغ الأهمية.

الواقع يضغط.. والحكومة المأزومة في مواجهة واقع اقتصادي هش
أمام كل هذه المعطيات، تواجه حكومة نتنياهو تحديات معقدة، إذ لا يمكن فصل الوضع الاقتصادي المتدهور في الكيان الإسرائيلي عن السياسات المتبعة من قبل حكومة نتنياهو، التي اختارت مسار التصعيد العسكري والاعتماد على الحروب كوسيلة لتحقيق أهدافها السياسية. هذه الحروب المتكررة، سواء ضد قطاع غزة أو لبنان أو إيران، لم تكن مجرد مواجهات عسكرية، بل كانت عبئًا ثقيلاً على الاقتصاد.
الحكومة التي يقودها نتنياهو تستنزف موارد البلاد في تمويل العمليات العسكرية المكلفة، مما يؤدي إلى تقليص الاستثمارات في القطاعات المدنية والتنموية، ويزيد من العجز في الموازنة العامة. كما أن التوترات المستمرة تجعل مناخ الأعمال غير مستقر، وتثني المستثمرين المحليين والأجانب عن ضخ أموالهم في الاقتصاد، ما يعرقل النمو ويزيد من معدلات البطالة.
علاوة على ذلك، فإن الحرب المستمرة تؤدي إلى تراجع الاستهلاك الخاص، حيث يعاني المواطن من تداعيات الأزمة الأمنية، ويخفض إنفاقه خوفاً من المستقبل المجهول كما ذكرنا . كل هذه العوامل مجتمعة تجعل الاقتصاد الإسرائيلي يدور في حلقة مفرغة من الركود والتراجع، ما يعكس فشل استراتيجية نتنياهو في تحقيق الأمن الاقتصادي والاجتماعي لشعبه، والتأخر في التعافي الاقتصادي، والنمو الضعيف، والاعتماد الكبير على الواردات، كلها عوامل تضغط على القدرة التنافسية للاقتصاد الإسرائيلي وتزيد من مخاطر التعرض لصدمات جديدة.

بين الانكماش واللا يقين... حين يصبح الاقتصاد الإسرائيلي معلّق على خيط الأمن
في ضوء ما سبق، من الواضح أن الاقتصاد الإسرائيلي يعيش حالة من عدم اليقين النسبي، حيث تشكل الحروب التي تقودها الحكومة والضغوط الدولية عوامل تعيق التعافي والنمو. فالتوترات الإقليمية، خاصة مع إيران، ليست مجرد تهديد أمني، بل أصبحت عاملًا مؤثرًا مباشرة على صحة الاقتصاد ومستوى المعيشة.
الواقع الاقتصادي الذي كشفت عنه بيانات الربع الثاني من 2025 يعكس وضعاً صعباً يعاني من تداعيات الحرب والتحديات البنيوية المتراكمة. فالحرب مع إيران لم تكن مجرد مواجهة عسكرية، بل كانت اختباراً قاسياً لهشاشة الاقتصاد الإسرائيلي واعتماده الكبير على الخارج.
وفي الوقت الذي يتطلع فيه المستوطنون وقادة كيان الإحتلال إلى مستقبل أكثر استقراراً، فإن حكومة نتنياهو تتحمل مسؤولية كبيرة في تحقيق هذا التوازن الصعب بين تعزيز "الأمن الوطني" وتحقيق نمو اقتصادي حقيقي ومستدام يعيد للمستوطنين الأمل بمستقبل أفضل، رغم قرب زوال الكيان... لكن، حتى زواله، يبقى المّتهم الأول والأخير بخراب ما تبقى من الكيان: الطاغية نتنياهو...
أمل شبيب