لا نزال نحدثك عن زيارة (الجامعة)، ونعني بها: (الجامعة الكبيرة)، حيث انشأها الامام علي الهادي (ع) استجابة لطلب احد اصحابه بأن ينشأ كلاما بليغا لزيارة الائمة عليهم السلام،... وقد حدثناك عن هذه الزيارة في مقاطع متسلسلة منها، ونحن الان على وشك ان ننتهي منها،... المهم، ان نتابع حديثنا عن مقاطع الزيارة ومنها: المقطع البادئ بقوله(ع): (كلامكم نور) الى ان يقول:(شأنكم الحق والصدق والرفق ...).
ان هذه الفقرة من الزيارة تتميز بكونها متضمنة تجانسا ايقاعيا هو: وحدة الفواصل الثلاث، اي (الحق) و (الصدق) و (الرفق)، وبكونها تتضمن دلالات متجانسة بدورها، وهذا ما يقتادنا الى ملاحظتها بدقة، واستخلاص نكاتها، ونبدأ اولاً بعبارة: (شأنكم الحق)، فماذا نستلهم منها؟
لا نحتاج الى كثير تأمل حتى ندرك (الحق) هو: مصطلح يتضمن كل ما هو خير ورشاد وهدى ونحو ذلك، ويمكن الذهاب الى ان(الحق) هو عنوان واسع، يندرج ضمنه حشد من المفهومات المرتبطة بما هو (حق) مثل الصدق والرفق وسواهما، ولكن الملاحظ ان الزيارة قد اكتفت بتثبيت ظاهرتين هما:
(الصدق) و (الرفق)، وهذا يقتادنا الى كشف الاسرار الكامنة وراء الاختيار المذكور، ونقف عند العبارة الاولى وهي (الصدق)، فماذا نستلهم منها؟
ان (الصدق) هو: سمة اخلاقية يقابلها (الكذب)، ولعل ما نتوقعه من الاسئلة المثارة لدى قارئ الزيارة هو: لماذا انتخبت الزيارة ظاهرة (الصدق) مباشرة بعد كلمة (الحق)؟
الجواب هو: ان (الصدق) في الكلام هو تعبير عن الصدق في الاعماق، اي: ان الصدق هو الكلام او اتلمظهر الخارجي للداخل، وهذا يعني ان الانسان اذا كان صادقا في مظهره الخارجي فهذا يعني (صدقه) في مظهره الداخلي، اي: عقيدته او افكاره او ثقافته بعامة، ولذلك جاءت ظاهرة (الصدق) تعبيراً واضحاً عن الصدق في الاعماق، اي: الصدق في العقيدة او الصدق في التعامل مع الله تعالى، والعكس هو الصحيح ايضاً، اي: ان الكذب هو سلوك سلبي تمام السلبية لان الكذب في اللسان، وهو تعبير عن (الكذب) في الاعماق، اي: الكذب في العقائد، او لنقل: الكذب في التعامل مع الله تعالى، بمعنى ان الكاذب هو فاسق بمعنى الكلمة، بحيث لا يتعامل مع الله تعالى صادقاً، بل يتعامل كاذباً، ولذلك ورد في النصوص الشرعية، ان الكاذب هو اشد الناس شروراً، و ورد بان (الكذب) هو مدخل لممارسة جميع الاثام، بصفة ان الكذب في القول ينسحب على الكذب في العقائد بعامة، فالكاذب في قوله كاذب في ادعائه بانه مع الله تعالى، وكاذب في سائر انماط سلوكه، فالممارسة الجنسية غير المشروعة، والغيبة، والبهتان، والعدوان، و... جميعاً: تعد تعبيراً عن (الكذب) في السلوك، حيث من يكذب في قوله: سوف يكذب في علاقته الجنسية مع الاطراف الاخرى لان المطلوب هو: العلاقة الزوجية، واما خارجاً عنها فهي علاقة (كاذبة) لنهي الشرع الاسلامي عنها، وهكذا سائر السلوك السلبي.
اما الظاهرة الثالثة في مقطع الزيارة فهي (الرفق)، هنا قد تتساءل ما هي المجانسة بين (الصدق) و (الرفق)؟
الجواب هو: ان (الرفق) هو: تعامل رقيق وليّن، ومهذب مع الآخر، بمعنى ان (الرفق) يتجانس مع (الصدق) من حيث كونهما تعاملين يقومان على العلاقة الانسانية المخلصة والمحبة للطرف الآخر، والصادق يصدق في علاقته والرفيق يرفق مع الآخر في علاقته وهذا يعني ان كليهما (الصادق والرفيق) يُعنيان بالبعد الانساني كلّ العناية كما هو واضح، وكما اتضح عملياً في سيرة ائمة الهدى عليهم السلام، لنستمع لما يقوله خبير البرنامج سماحة الشيخ باقر الصادقي في الاتصال الهاتفي التالي:
المحاور: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على محمد وآله الهداة الى الله والسلام عليكم احباءنا وها نحن نلتقيكم في هذه الفقرة من برنامج امناء الرحمان مع خبير البرنامج سماحة الشيخ باقر الصادقي، سماحة الشيخ فيما يرتبط بتجلي الحق والصدق والرفق في سيرة ائمة الهدى عليهم السلام حبذا لو تتفضلون باعطاء نظرة اجمالية عن هذا الموضوع؟
الشيخ باقر الصادقي: بسم الله الرحمن الرحيم، بما ان اخلاق اهل البيت عليهم السلام منسجمة مع تعاليم القرآن بل اخلاقهم تعكس لنا القرآن فهم القرآن الناطق والقرآن بلا شك انه في مواعظه نجد الرفق واضح بشكل جلي وكذلك الصدق والحق اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ، فَقُولا لَهُ قَوْلا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى، يعني دعوتهم الى الله اولاً بالحكمة وبالموعظة الحسنة وبالرفق كذلك لكي يعطف القلوب ويستطيع ان يجذب العباد الى الله عز وجل، لعل هناك صور لهذا الرفق في دعوة اهل البيت عليهم السلام، من هذه الصور مثلاً ما ينقل عن الامام زين العابدين عليه السلام الامام زين العابدين كان يشتري بعض الغلمان ولفترة ستة اشهر يعتقهم في سبيل الله وكان اثناء ما يشتري العبيد يعلمهم الاحكام والقرآن وبعض الامور، ومن ناحية اخلاق الامام اذكر هذا الشاهد الذي يعكس الرفق واخلاق الامام وكيف يدعون وكيف يؤثرون في الطرف المقابل، كان عنده غلاماً قال له الامام: فلان فلم يجب فلان فلم يجب فلان لم يجب للمرة الثالثة، فقام الامام من الحجرة التي هو فيها الى الحجرة الثانية لما لم تجبني الم تسمع كلامي قال: بلا، ولكن امنت عقوبتك، الامام رفع يده ويقول: الحمد لله الذي جعل عبدي آمن، طبعاً بلا شك هذا الخلق أثر في الطرف المقابل لذلك كان هؤلاء يخرجون ويكونوا دعاة لاهل البيت عليهم السلام، هكذا بالنسبة للحق هم دعاة الحق واهل الحق بل الحق معهم فالحق كما ورد في زيارة آل ياسين الحق ما رضيتموه والباطل ما اسخطتموه علي مع الحق والحق مع علي يدور معه حيثما دار، مصداق الحق تجلي الحق بشكل واضح كان في سلوك وتصرفات اهل البيت وهكذا الصدق هم في الحقيقة من اصدق الناس اقوالهم منسجمة مع افعالهم اقوالهم منطبقة مع سيرتهم وافعالهم وهذه مرتبة العصمة التي منَّ الله عليهم بهذه النعمة فحينما يدعون العباد او سيرتهم مع الناس فواضح فيها الصدق والرفق والحق بشكل جلي وهناك شواهد في سيرة الائمة كثيرة على هذا المعنى، يعني هناك في سيرة الامام الحسن روحي فداه عنده جارية حييته بباقة ريحان فقال لها اذهبي فانتي حرة لوجه الله، قيل له ما قدمت لك شيئاً هذه وظيفتها جارية قال: هكذا ادبنا الله في القرآن، قال الله عز وجل وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا وكان احسن منها عتقها في سبيل الله، نجد دعوة الرفق والحق واضحة والصدق في اخلاق اهل البيت، جعلنا الله واياكم ممن سار على نهجهم واقتص آثارهم آمين رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.
المحاور: صلوات الله عليهم اجمعين شكراً جزيلاً سماحة الشيخ الصادقي، وشكراً لاحباءنا وهم يتابعون ما تبقى من هذه الحلقة من شرح الزيارة الجامعة في برنامج امناء الرحمان.
اذن امكننا ان نثّبت جانبا من النكات الكامنة وراء السمات المتصلة بالحق والصدق والرفق، سائلين الله تعالى ان يوفقنا في ممارسة ذلك، انه وليّ التوفيق.
*******