ورُوِيَ عن الامام علِي ـ عليه السلام ـ أنه قال: "في كُلِّ لَحْظَـةٍ أَجَـلٌ، وفي كُلِّ وَقْـتٍ عَمَـلٌ".
أجَل واللهِ، في كل لحظة أجَل، يعني في كل لحظة مَوت، وفي كل لحظة انتهاء وقت مضروب لكائن من الكائنات أو لحدث من الأحداث، هذا هو القانون العام الحاكم في الوجود كله.
كل مخلوق أجَلٌ لا يتخطّاه ولا يتأخَّر عنه ولا يتقدَّم عليه، فكلُّ ما له بداية له نهاية، وكل ما وُجِدَ في زمن مّا يوجد لأجل مضروب في زمنٍ ما، إذا انقضى أجله انقضى وجوده في النشأة التي كان فيها، يستوي في ذلك الجماد والنبات والحيوان، والكبير من الأشياء والصغير منها، الجميع مَحكوم لهذا القانون ومَقهور له، وحده الله تعالى فوق هذا القانون لأنه واجِب الوجود لا يخلو منه زمان ولا مكان، ليس لوجوده بداية ولا نهاية، إنه أزَلِيٌّ سَرمَدِيٌ.
أَجَلُ المَخلوقات لَحظِيٌ، كل لحظة ينتهي أجل واحد أو طائفة منها، كل لحظة ينتهي أجَلُ مَجَرَّةٍ، وكوكب، ونَجم، ونبات، وحيوان، وإنسانٍ، فَكِّر معي قارئي الكريم في هذا القانون القاهر الذي لا يتخلَّف ولا يتبَدَّل، وهو قانون مطرد يجري ما جرى الزمان، مع كل حرف أكتبه ينتهي أجل مخلوق، ومع كل حرف تقرؤه يجيء أجَلٌ، وأنا وأنت لا ندري متى يجيء أجلُنا، لا ندري متى يدهمنا الموت ويأخذنا على غفلة مِنّا!
والحَقُّ أن الموت يعمل فينا حتى يبلغ بنا نهاية الأجل المَضروب لنا في هذه الحياة الدنيا، فإذا كان في كل لحظة يجيء أجَلٌ غيرنا، ففي كل لحظة تموت خلايا في أبداننا، ذلك يعني أننا والمَوت في تعايش دائم، لكن صوارف الحياة وإقبالنا على شؤون الحياة وانشغالنا بهمومنا وطموحاتنا، وتحصيل حاجاتنا، وتلبية رغباتنا، كل ذلك يجعلنا غافلين عن هذه الحقيقة، والأسوأ من ذلك أن نبقى رَهائن غَفلتنا عن لحظة نصبح فيها في عداد الموتى الذين ارتحلوا عن عالم الفَناء إلى عالم البَقاء، والأشَدّ سوءاً مِمّا سَبَق ألّا نُهَيّئ الزَّاد ليوم المَعاد.
وإذا كان في كل لحظة أَجَلٌ، ففي كل وقتٍ عمَلٌ، وكل الخلق عاملٌ، منهم من يعمل باختياره وإرادته ووعيه كالإنسان، ومنهم من يعمل بغريزته كالحيوان، ومنهم من يعمل بطبيعته التي خلقه الله عليها، أي يعمل وفق حركة تكوينية صارمة، وقد يَسَّر الله لكل مخلوق ما خُلِق له. وهيّأ له حاجاته والقوانين التي ترعى حركته.
وحده الإنسان هو الذي تتنوَّع أعمالُه بسبب اختياره فمن الناس من تكون أعمالهم صالحة، خَيِّرة، مُتقَنة، ومن الناس من تكون أعمالهم سيِّئة، شِرِّيرة، من الناس من يرنو ببصره وهو يعمل إلى اللحظة الراهنة لا يهتَمُّ بما بعدها، ولا يهتَمُّ بعواقبها، ولا يهتَمُّ بصلاحها أو فسادها، ومن الناس من يرمي ببصره وهو يعمل إلى ما بعد الحياة الدنيا، يتطلَّع إلى آثار أعماله في الآخرة، حيث دار القرار والاستقرار.
وهذا الصِّنف ويجب أن نكون منه، هو الذي يملأ كل وقت من أوقاته بالعمل الصالح والنافع الذي يبني الحياة الدنيا في طول بناء الآخرة، يقوم بما تفرضه عليه حياته الدنيا وحاجاته فيها على مختلف الأصعدة، ويجعل من جميع ذلك عملاً للآخرة، والأمر سَهل لا يحتاج إلى جهد كبير، يكفيه أن يتقرَّب بما يعمل إلى الله، وأن يكون دافعه إلى ذلك أداء التكليف الذي كَلَّفه الله، فيبني آخرته ببناء دُنياه، فلا الآخرة تُنسيه الدنيا ولا الدنيا تحجبه عن الآخرة، وهذا توازُن لا يُتقِنُه إلا من صَحَّت عقيدته، ووفقه الله وسَدَّده.
بقلم الباحث في الدراسات القرآنية السيد بلال وهبي