وإنما هناك الكثير من الشواهد والدلائل التي تشير بوضوح إلى أن هذا الاختلاف فيما أطلقت عليه "الدولة" الإسرائيلية عملية "السيوف الحديدية" يعود لأسباب إضافية غير التي ذكرناها أعلاه.
من هذه الأسباب بحسب ما استطعنا أن نرصده من أحداث ووقائع من قلب جغرافيا المعركة، وبالرجوع إلى الكثير من الشهادات التي سمعناها من مواطنين بدت في غالبيتها صحيحة وذات مصداقية عالية، هي مشاركة أعداد كبيرة من المقاتلين الأجانب "المرتزقة" من جنسيات مختلفة في الهجوم الإسرائيلي على قطاع غزة، وخصوصاً بعد بداية الهجوم البري على المنطقة الشمالية في قطاع غزة في الثامن والعشرين من تشرين الأول/ أكتوبر من العام الماضي، واستمرّت هذه المشاركة أيضاً أثناء العملية البرية التي ما زالت على أشدّها في مدينة خان يونس جنوب القطاع، وفي محافظات المنطقة الوسطى ولاسيما في مخيمي البريج والمغازي.
دعونا أوّلاً نبدأ من الأحداث والوقائع التي رصدنا بعضها من قلب مسرح العمليات القتالي، واستطعنا من خلالها الحصول على استنتاجات ربما تبدو على درجة عالية من المصداقية والصحة.
أولى هذه الوقائع هو حجم الخسائر في صفوف قوات الاحتلال نتيجة عمليات فصائل المقاومة الدفاعية بمعظمها، والتباين الواضح فيما كانت تعلن عنه مشافي الاحتلال من أرقام مرتفعة في أعداد القتلى والجرحى من جنود الجيش الصهيوني، وبين ما تعلنه بيانات الجيش نفسه أو الناطق باسمه "دانيال هكاري"، والذي بدا في معظم مؤتمراته الصحافية ضعيفاً ومربكاً وفاقداً للكثير من أسس الخطاب الإعلامي العسكري، كما اعتدنا أن نرى على سبيل المثال من الناطقين العسكريين باسم المقاومة الفلسطينية، أو المتحدّث العسكري باسم أنصار الله في اليمن العزيز العميد يحيي سريع، والذي بات يحظى بشعبية كبيرة في أوساط المواطنين الفلسطينيين خصوصاً والعرب عموماً.
في ما يخصّ هذا التباين وبحسب الكثير من المحللين الصهاينة، فإن "جيش" الاحتلال لا يعلن في العادة عن عدد قتلاه من الجنود الذين لا يحملون الجنسية "الإسرائيلية"، ويكتفي بالإعلان عن القتلى الذين ولدوا لأبوين إسرائيليين، أو لأمّ إسرائيلية، أما الذين وُلدوا لأب إسرائيلي، أو لأبوين غير إسرائيليين، فهم يعتبرون أجانب، ولا تتحمّل "الدولة" أي مسؤولية قانونية أو اجتماعية تجاه أسرهم وعوائلهم، باستثناء الجنود البدو والدروز الذين يشكّلون نسبة ضئيلة من عدد جنود "جيش" الاحتلال، حيث يضطر للإعلان عن أسمائهم، وتقديم مستحقات مالية لعوائلهم، في إطار محاولته المحافظة على علاقة جيدة مع هذا الجزء الضئيل جداً من عرب الداخل، والذين تعرّضوا لعمليات متواصلة من غسل الأدمغة، و"الأدلجة" على مستوى الانتماء القومي والوطني، ساهمت في انسلاخهم عن مجتمعهم العربي والتوجّه لخدمة هذه "الدولة" القاتلة والمجرمة.
وبناء عليه نحن نعتقد كما الكثير من المتابعين والباحثين، أن الفارق الكبير والواضح في عدد القتلى والجرحى في صفوف "جيش" الاحتلال، ناتج عن عدم الاعتراف بأولئك الذين لا يحملون الجنسية الإسرائيلية، وهم بموجب القانون الدولي يُعتبرون "مرتزقة"، يقاتلون بشكل غير شرعي من أجل الحصول على المال فقط، ومن دون أن يكون لهم أيّ علاقة تُذكر بالقضية الأساسية التي تُخاض من أجلها الحرب.
أمر آخر ربما يبدو من المفيد أن نعتمد عليه في الاستنتاج حول مشاركة مقاتلين من المرتزقة في الحرب على غزة، وهو شكل القتال الذي يدور على الأرض بين قوات الاحتلال الصهيوني، وبين مقاتلي المقاومة الفلسطينية البواسل، وتحديداً فيما يتعلّق بما يمكن أن نطلق عليه تحمّل "جيش" الاحتلال للخسائر الكبيرة في المعدّات والجنود الذين يسقطون أثناء المواجهات القاسية التي تجري على الأرض، كتلك التي وقعت في حي الشجاعية على سبيل المثال، أو في مخيم جباليا شمال القطاع، والتي شهدت سقوط النسبة الأكبر من الجنود الصهاينة، إضافة إلى مئات الدبابات وناقلات الجند التي تعرّضت لمحرقة كبيرة في أزقة وشوارع غزة لم تشهدها في أيّ حرب سابقة.
مما استطعنا أن نحصل عليه من معلومات موثّقة، سواء من مواطنين كانوا في قلب الأحداث، أو مما شاهدناه بأعيننا في كثير من المرات، فإن مستوى تقبّل الخسارة في صفوف المقاتلين الذين يشاركون في القتال إلى جانب "جيش" الاحتلال كانت أعلى بكثير من أي حرب أو معركة ماضية، وبوصف أوضح فإنّ مستوى الجسارة الذي يمتلكه أولئك المقاتلون يختلف شكلاً وموضوعاً عمّا كان معتاداً من جنود الاحتلال في مواجهات أخرى.
في كثير من المعارك السابقة كانت قوات الاحتلال تتراجع إلى مسافات كبيرة إلى الخلف بمجرد تفجير دبابة واحدة، أو استهداف ناقلة جند تحمل مجموعة من الجنود، وسبق أن حصل في العام 2004 أنها أنهت عملية عسكرية واسعة ضدّ حي الزيتون جنوب مدينة غزة، بعد تفجير سرايا القدس حينذاك ناقلة جند من طراز "بوما"، ما أدى إلى مقتل 6 من وحدة الهندسة.
في الحرب الحالية يتمّ تفجير عشرات الدبابات وناقلات الجند وقتل الكثير من الجنود، إلا أن عمليات القتال تتواصل، والإصرار على التقدّم باتجاه بعض المحاور التي تبدو ثانوية في بعض الأوقات لا يتراجع، والخشية من سقوط المزيد من القتلى في صفوف مقاتلي العدو لا يشكّل رادعاً لاستمرار العمليات، وهذا الأمر لم يكن كما أسلفنا معمولاً به في صفوف "جيش" الاحتلال، حتى في التحرّك الراجل الذي يقوم به بعض الجنود على الأرض.
في ظلّ اشتعال المعارك العنيفة تبدو آثار هذا التغيّر واضحة وجليّة، ففي الحروب السابقة كان الجنود من ألوية المشاة المدرّعة لا يترجّلون من آلياتهم مهما كلّف الأمر، حتى أنهم كانوا على الدوام يقضون حاجاتهم في "الحفّاضات" بدلاً من نزولهم من الآليات المصفّحة، في هذه المعركة تتمّ مشاهدة العشرات من هؤلاء الجنود، ولا سيما من أصحاب البشرة الداكنة، يمشون في بعض الشوارع غير الآمنة، وهذا ما أظهره فيديو العملية التي أعلنت عنها كتائب القسام قبل نحو أسبوعين بالقرب من دوّار الكويت جنوب مدينة غزة، إذ ظهر في الفيديو عدد من الجنود يمشون على الطريق رقم 10 من الغرب باتجاه الشرق، ويحاولون عبور المفترق مشياً على الأقدام رغم أن هذا المكان يُعتبر خطّ قتال محتدم في كثير من الأوقات، حيث تمّ استهدافهم بقذيفة من إحدى البنايات في المكان.
وهذا يشير أيضاً كما النقطة الأولى التي أشرنا إليها إلى أن هؤلاء الجنود غير "إسرائيليين"، ولا يبدو أنه تمّت إحاطتهم سلفاً بمقدّرات المقاومة الفلسطينية، أو جسارة مقاتليها وقدرتهم على القتال في مختلف الظروف وأصعبها، وهم كما يبدو حتى من بعض الفيديوهات التي ينشرونها عبر حساباتهم على وسائل التواصل الاجتماعي، ويتحدّثون فيها بلكنة غير معروفة عن الإسرائيليين، يعتقدون أنهم يشاركون في معركة سهلة، طرفها الآخر وهم الفلسطينيون ضعيف ومنكسر، وبالإمكان هزيمته بكلّ سهولة، وأنه لا داعي للخوف من مقاتليه.
المعطى الثالث والذي نكتفي به لعدم الإطالة، هو شهادة إحدى السيدات الفلسطينيات والتي تُقيم في الخارج وكانت في زيارة لعائلتها أثناء الحرب، هذه السيدة التي تتقن اللغة الإنكليزية عن ظهر قلب، وتحفظ لكناتها المختلفة وتفرّق بينها، أفادت في شهادة حيّة أنها فوجئت في الشهر الثاني من العدوان، باقتحام مجموعة من الجنود، بدوا من خلال لباسهم العسكري بأنهم من قوات المظليّين، لشقّة كانت تسكن فيها بالقرب من مشفى الشفاء غرب مدينة غزة، حيث تقدّم قائد المجموعة منها وكان من أصحاب البشرة السوداء القاتمة، وتحدّث معها بلغة إنكليزية سليمة، استطاعت أن تشخّصها بوضوح أنها أميركية عامّية، وهي بحسب وصفها لا يُتقنها إلا المواطنون الأميركيون، ولا يمكن للإسرائيليين التحدّث بها بمثل هذه الطلاقة والسرعة.
إفادة السيدة المذكورة والتي عاشت في الولايات المتحدة الأميركية لفترة طويلة جداً، أشارت إلى أنها تجزم بما لا يدع مجالاً للشك بأنّ الجندي الذي تحدّث إليها هو جندي أميركي، حتى من ناحية القوام والبشرة فهو يُشبه الأميركيين تماماً، لكنها لم تستطع أن تؤكّد هل هو جندي نظامي يعمل في الجيش الأميركي، أم هو "مرتزق" جاء للقتال بحثاً عن المال، خصوصاً في ظلّ عدم ملاحظتها لأيّ وسم عسكري أو اسم على بزّته العسكرية، وهذا الأمر غير معتاد في "الجيش" الإسرائيلي، حيث إنّ كلّ جندي له وسم واضح على صدره، ويحمل قلادة عليها اسمه وفصيلة دمه. وكلّ هذا يشير بوضوح إلى إمكانية أن يكون هذا الجندي هو أحد المرتزقة الأجانب الذين يقاتلون في "الجيش" الصهيوني.
هناك الكثير من الدلائل والمعطيات التي تجعلنا متأكّدين من استعانة "جيش" الاحتلال بعدد كبير من المرتزقة الأجانب في حربه على غزة، وهو الأمر الذي يشير إلى رغبته في تقليل عدد الخسائر التي تقع في صفوف الجنود الإسرائيليين من ناحية، وإلى عدم ثقته في الجندي الإسرائيلي الذي يُعرف عنه بأنه جندي جبان ومهزوز، ولا يملك الصبر على القتال طويل الأمد، ولا الرغبة في القتال وجهاً لوجه.
كلّ ما تقدّم يشير أيضاً إلى أنّ "الدولة" العبرية تخالف صراحة القانون الدولي، الذي يجرّم ويمنع استخدام المرتزقة في الحروب والمعارك العسكرية، ويعتبر عمل هؤلاء الجنود، والجهات التي تشغّلهم غير شرعي، وهذا الأمر يشير إلى جانب الكثير من الجرائم والتجاوزات لمدى استهتار الكيان الصهيوني بالقوانين الدولية، وقيامه بالكثير من التجاوزات لها من دون أي خشية من الآثار المترتّبة على ذلك، وهو في حقيقة الأمر يعتمد على مظلة حماية قانونية وسياسية واسعة يوفّرها له حليفه الأميركي، والعديد من الدول الأخرى التي باتت بعيدة جداً عن الالتزام بأدنى معايير القانون الدولي، ولاسيما ما يتعلّق منه بحماية المدنيين في أوقات الحروب، وتحديداً عندما يتعلّق الأمر بالمدنيين الفلسطينيين، الذين يعانون منذ أكثر من 75 عاماً من تجاوزات "إسرائيل"، ومن صمت المجتمع الدولي، والمؤسسات الأممية ذات الصلة عن تجاوزاتها وجرائمها.
بعد انتهاء الحرب العدوانية على غزة، سيكتشف العالم الكثير من الجرائم التي ارتكبها "جيش" الاحتلال ومرتزقته الذين جاء بهم من أصقاع الأرض، ولكنه أيضاً سيكتشف أن هذه "الدولة" المهزومة لم تنجح في تحقيق أيٍ من أهدافها المعلنة وغير المعلنة، رغم هذا الدعم الهائل الذي تلقّته من جهات عديدة، وأن أسطورتها التي بُنيت على جماجم مئات الآلاف من العرب والمسلمين منذ نشأتها حتى الآن، قد انهارت إلى الأبد، وأن مستقبلها المقبل لن يكون سوى مزيد من الهزائم والنكسات، في مقابل انتصارات وإنجازات للشعب الفلسطيني المظلوم، ولكلّ قوى الأمّة الحيّة والشريفة.
أحمد عبد الرحمن - موقع الميادين