كثير من الاختراعات يكون مصدرها الصدفة، وهو ما ينطبق على مادة جديدة توصل لها فريق بحثي أميركي عن طريق مزج مادة "هاليد البيروفسكايت" مع شكل نادر من الذهب أنتجوه، وتم الإعلان عن هذه المادة الجديدة التي وصفت بـ"الإنجاز الكيميائي" في دورية "نيتشر كيمستري".
وكان الباحثون بقسم الكيمياء بجامعة ستانفورد الأميركية يعملون على مشروع يتمحور حول أشباه الموصلات المغناطيسية لاستخدامها في الأجهزة الإلكترونية، وفي أثناء عملهم على مادة هاليد البيروفسكايت والذهب، أنتجوا المادة الجديدة، والتي لها خواص مغناطيسية مذهلة تؤهلها للتطبيقات الإلكترونية، حسبما قالت كبيرة مؤلفي الدراسة في تصريحات بالبريد الإلكتروني.
ولدى مادة "هاليد البيروفسكايت" خصائص جذابة لعديد من التطبيقات اليومية، فهي تعد بأداء استثنائي في التطبيقات الإلكترونية الضوئية بدءا من الوحدات الكهروضوئية غير المكلفة والعالية الأداء إلى الأجهزة الباعثة للضوء والليزر، وكذلك الخلايا الشمسية.
لذلك، يسعى الباحثون حول العالم إلى توسيع هذه العائلة من المواد، وقد كان باحثو جامعة ستانفورد على موعد مع إضافة عضو جديد لهذه العائلة، وهو مادة هاليد البيروفسكايت التي تحتوي على شكل نادر للغاية من الذهب فقد إلكترونين سالبي الشحنة، سماه الباحثون "إيه يو 2" (Au2).
فيزياء الذهب والنظرية النسبية
وباعتباره معدنا أوليا، حظي الذهب بالتقدير منذ فترة طويلة بسبب ندرته النسبية، بالإضافة إلى قابليته للطرق التي لا مثيل لها وخموله الكيميائي، مما يعني أنه يمكن تشكيله بسهولة في مجوهرات وعملات معدنية لا تتفاعل مع المواد الكيميائية الموجودة في البيئة ولا تفقد بريقها بمرور الوقت، وسبب رئيسي إضافي لقيمته، هو لون الذهب، ويمكن القول إنه لا يوجد معدن آخر في حالته النقية يتمتع بمثل هذا اللون الغني المميز.
والفيزياء الأساسية وراء مظهر الذهب المشهور تفسر أيضا سبب ندرة الشكل النادر منه "إيه يو 2+" (Au2+)، الذي أنتجه الباحثون، والسبب الجذري هو التأثيرات النسبية، التي تم افتراضها في الأصل في النظرية النسبية الشهيرة لألبرت أينشتاين.
وتقول هيمامالا كاروناداسا، أستاذة الكيمياء المساعدة بجامعة ستانفورد وكبيرة مؤلفي الدراسة، في بيان صحفي نشره الموقع الإلكتروني للجامعة يوم 28 سبتمبر/أيلول الماضي، "لقد علّمنا أينشتاين أنه عندما تتحرك الأجسام بسرعة كبيرة وتقترب سرعتها من جزء كبير من سرعة الضوء، تصبح هذه الأجسام أثقل، وتنطبق هذه الظاهرة على الجسيمات أيضا".
وتضيف أن لهذا "عواقب وخيمة على العناصر الثقيلة الضخمة، مثل الذهب، الذي تحتوي نواته الذرية على عدد كبير من البروتونات، حيث تشكل هذه الجسيمات مجتمعة شحنة موجبة هائلة، مما يجبر الإلكترونات السالبة الشحنة على الدوران حول النواة بسرعات فائقة، ونتيجة لذلك، تصبح الإلكترونات ثقيلة وتحيط بالنواة بإحكام، مما يخفف شحنتها ويسمح للإلكترونات الخارجية بالانجراف لمسافة أبعد من المعادن التقليدية، وتؤدي إعادة ترتيب الإلكترونات ومستويات الطاقة الخاصة بها إلى امتصاص الذهب للضوء الأزرق، وبالتالي ظهوره باللون الأصفر لأعيننا".
وبسبب ترتيب إلكترونات الذهب وبفضل النسبية، تكون ذرات الذهب بشكل طبيعي في صورة "إيه يو 1+" (Au1+) و"إيه يو 3+" (Au3+)، إذ تفقد إلكترونا أو 3 إلكترونات، على التوالي، في ترفض "إيه يو 2+"، حيث يشير الرقم "2+" إلى صافي الشحنة الموجبة الناتجة عن فقدان إلكترونين سالبي الشحنة (الرمز الكيميائي "Au" للذهب ينحدر من كلمة "aurum"، الكلمة اللاتينية التي تعني الذهب).
كيف تم إنتاج الشكل النادر من الذهب؟
ولإنتاج الشكل النادر من الذهب "إيه يو 2+"، قام كيرت ليندكويست، المؤلف الرئيسي للدراسة، بخلط ملح يسمى كلوريد السيزيوم وكلوريد الذهب الثلاثي معا في الماء، وأضاف حمض الهيدروكلوريك إلى المحلول "مع قليل من فيتامين سي".
وفي التفاعل التالي، يتبرع فيتامين "سي" (حمض) بإلكترون (سالب الشحنة) إلى "إيه يو 3+"، مما يؤدي إلى تشكيل "إيه يو 2+".
ووجد ليندكويست ورفاقه أن هذه النسخة المراوغة من عنصر الذهب القيم، "إيه يو 2+"، يمكن أن تعمل مادة هاليد البيروفسكايت على تثبيتها، وهو ما قاد إلى مادة جديدة تجمع بين الاثنين.
ويقول ليندكويست في البيان الصحفي "في المختبر، يمكننا صنع هذه المادة باستخدام مكونات بسيطة للغاية في نحو 5 دقائق في درجة حرارة الغرفة، ولقد انتهى بنا الأمر بمسحوق أخضر داكن جدا، أو أسود تقريبا، وثقيل بشكل مدهش بسبب الذهب الذي يحتوي عليه".
ويضيف أن "هذا البيروفسكايت المحتوي على الشكل النادر من الذهب هو الأول من نوعه، وهذا أمر مثير للغاية، حيث تحمل ذرات الذهب في البيروفسكايت تشابهات قوية مع ذرات النحاس في الموصلات الفائقة ذات درجة الحرارة العالية، وتظهر الذرات الثقيلة ذات الإلكترونات غير المتزاوجة، مثل (Au2+)، تأثيرات مغناطيسية رائعة لم يتم رؤيتها في ذرات أخف".
من جهتها، تعتقد كاروناداسا أن هذه الخواص المغناطيسية ستعطي للمادة تطبيقات عدة، وهو ما يعملون على اختباره حاليا، حسبما قالت في تصريحات بالبريد الإلكتروني. وأوضحت أنه "من السابق لأوانه تحديد ماهية هذه التطبيقات، لكننا مهتمون بأشباه الموصلات المغناطيسية، حيث تكون للخواص المغناطيسية الفائقة ميزة كبيرة في مجال الإلكترونيات".
وعن إمكانية تصنيع تلك المادة بشكل تجاري، قالت إن "تركيب المادة قابل للتطوير تماما للإنتاج بشكل تجاري"، مشيرة إلى أن تكلفة المادة ستحددها تكلفة الذهب.
ومن جانبه، يرى صلاح عبية، المدير والمؤسس لمركز الفوتونات والمواد الذكية بمدينة زويل للعلوم والتكنولوجيا بمصر، والحاصل على جائزة مؤسسة (أوبتيكا) الأميركية للضوئيات هذا العام، أن أبرز التطبيقات الإلكترونية لهذه المادة سيكون في مجال المستشعرات.
وقال عبية -في تصريحات هاتفية بعد إطلاعه على الدراسة وما توصل له الباحثون- إن "دمج إحدى المواد البلازمونية مثل الذهب، يزيد من حساسية المستشعر القائم على (هاليد البيروفسكايت)،، حيث تتغير خصائص تلك المواد عند حدوث أي تغيير بسيط في التفاعل بسبب حساسيتها العالية".
وأوضح أنه يمكن استخدام المادة الجديدة في إنتاج مستشعرات طبية ذات كفاءة عالية، مثل مستشعر لقياس نسبة السكر في الدم، ويمكن أيضا استخدامها لإنتاج مستشعرات تقيس نسب الملوثات المختلفة في الهواء، مثل ثاني أكسيد الكربون.
وإضافة لهذه التطبيقات الإلكترونية، يشير عبية إلى أن دراسات التحليل الطيفي وحيود الأشعة السينية التي أجريت على المادة، للتحقق من كيفية امتصاصها للضوء وتحديد خصائص بنيتها البلورية، تبشر بأنه سيكون لها مستقبل في مجال الخلايا الشمسية، حيث يؤدي احتوائها على الذهب إلى تحمل درجات الحرارة العالية، مما يساعد على إنتاج خلايا ملائمة للأجواء الشديدة الحرارة، كما أن الذهب يجعل المادة تعمل كمصيدة للضوء، بحيث تمتص كمية كبيرة منه، تزيد من كفاءة عمل الخلايا الشمسية.