ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ بن ابي طالب عليهما السلام أنه قال: "سِرُّكَ أَسِيْرُكَ، فَإِنْ أَفْشَيْتَهُ صِرْتَ أَسِيْرَهُ".
وسِرَّكَ ثم سِرَّكَ ثُمَّ سِرَّكَ، احتفظ به لنفسك ما عِشتَ، خبِّئهُ في بِئْرٍ عميقَة سحيقة بعيدة الغَور، لا تُطلع عليه حتى أقرب الناس إليك، فلربما صار القريب بعيداً عنك يوماً مّا، وإن لم يبعد عنك فلربما هِنْتَ عليه، وإياك أن تثق بكل أحد، فقد تكتشف أنه لا يُؤْتَمنُ على سِرٍّ، بل قد لا يُؤْتَمن على ما دونه، وقد تبدِّله الأيام من صديق إلى عدوٍّ، وإنَّ سِراً يتقلقل في نفسك كيّ يخرج منها حرِيٌّ بالآخر أَلَّا يُمسِك به عن سواه، والنَّفسُ الأمّارة بالسُّوء تنتشي بفضح الأسرار، وآذان الناس مُنصِتةٌ تتلَهَّفُ للاستماع إلى ما غاب عنها، وليس بغائب عنك أن لإفشاء السِّرِّ حتى ولو كان أمراً عادياً آثاراً سلبية خطيرة، ويترتب عليه نتائج وخيمة قد تَضُرُّ بسمعتك وكرامتك ومكانتك الاجتماعية، أو مصالحك، أو تكشفك أمام من يتربَّصُ بك دوائر السوء، كما لا يغيب عنك أن مَنْ فشا سِرُّه صارَ رِقّاً، أي صار أمره بيد العارفين بسره، ومكَّنهم من نفسه، وأحكم قبضتهم عليه يحركونه متى شاؤوا، وفي ذلك من فقدان الحرية والاختيار، وذهاب الطمأنينة، واستبداد القلق، ما يُحيل حياة المرء إلى جحيم.
وقد حَثَّت الروايات الشريفة الصادرة عن أهل بيت العصمة عليهم السلام على الاحتفاظ بالسِّرِّ كما يحتفظ المرء بماله، بل كما يحتفظ بروحه، فعن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: "مَنْ كَتَمَ سِرَّهُ كَانَتْ الخِيْرَةُ بِيَدِهِ" أي ما دام سِرُّه مكتوماً كان المرءُ مالكاً زمام أمره، فإذا أذاعه صار أمره بيد غيره. وقال عليه السلام : "سِرُّكَ سُرُوْرُكَ إِنْ كَتَمْتَهُ، وَإِنْ أَذَعْتَهُ كَانُ ثُبُورُكَ".
وقال الإمام موسى الكاظم عليه السلام : "احْفَظْ لِسَانَكَ تَعِزَّ، وَلَا تُمَكِّنِ النَّاسَ مِنْ قِيَادِ رَقَبَتِكَ فَتَذِلَّ". وعنه عليه السلام أنه أوصى أحد أصحابه فقال له: "إِنْ كَانَ فِي يَدِكَ هَذِهِ شَيْءٌ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ لَا تَعْلَمَ هَذِهِ (وأشار إلى يده الأخرى) فَافْعَلْ".
إن في الناس مَنْ يُطلِعْ الأخرين على سِرِّه لطيبة في نفسه، أو لِتَسَرُّع منه، أو لفضفضة وشكاية إليهم، أو ثِقَة بهم، ظناً منه أنهم يريدون الخير له، ولا يفشون سره، وقد كان حرياً به أن يحتفظ به لنفسه، وأن يُحيطه بأغلفة سميكة من الكتمان، لأن سِراً يضيق به صدره لن تتسع له صدور الأخرين، بل هي به أضيق، وهم لإفشائه أسرع، وقد ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: "لا حِرْزَ لِمَنْ لا يَسَعُ سِرَّهُ صُدْرُهُ"*. وقال عليه السلام: *"كُلَّما كَثُرَ خُزَّانُ الأَسْرارِ كَثُرَ ضَيَاعُها".
ويُنَبِّهُنا الإمام أمير المؤمنين عليه السلام إلى أنه ليس كل أمر يمكن إذاعته وإفشاؤه مهما كان صغيراً، فَرُبَّ صغير عندنا كبير عند غيرنا، ورُبَّ أمرٍ نحسَب أنه غير مُهِمٍ هو عند غيرنا مُهِمٌ، كرأسِ خيطٍ يوصلهم إلى الأهم، أو بداية طريقٍ يؤدي بهم إلى كشف الكثير، ويعلمنا الإمام عليه السلام قاعدة هي في غاية الأهمية وعلى أساسها نُمَيِّز بين ما يجب كتمانه وما لا يضُرُّ إفشاؤه وإعلانه فيقول: "لا تُطْلِعْ صَدِيْقَكَ عَلَى سِرِّكَ إِلَّا فِيْما لَوْ اطَّلَعَ عَلَيْهِ عَدُوُّكَ لَمْ يَضُرْكَ".
وكما نَهَت الروايات الشريفة المؤمنَ عن إفشاء سِرِّهِ، نَهَتْ كذلك بل شَدَّدَت النَّهْيَ عن إذاعة سِرِّ المُؤمِن مِمَّن اطَّلَعَ عليه، فَقد يطَّلِعُ بعضنا لسبب من الأسباب على سِرٍّ مؤمن فلا يجوز له إذاعته وإفشاؤه، بل يجب سَتْرُه وإخفاؤه والتَّكَتُّم عليه، فقد جاء الحديث الشريف: "عَلَيْكُمْ فِي أُمُورِكُمُ الْكِتْمَانَ فِي أُمُورِ الدِّينِ والدُّنْيَا فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّ الْإِذَاعَةَ كُفْرٌ، وَرُوِيَ أَنَّ الْمُذِيعَ والْقَاتِلَ شَرِيكَانِ"*.
وعن عَبد اللَّهِ بنِ سِنَان، قَالَ: *قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الصادق عليه السلام: عَوْرَةُ الْمُؤْمِنِ عَلَى الْمُؤْمِنِ حَرَامٌ، قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: يَعْنِي سَبِيلَيْهِ (أي العورتين المعروفتين) فَقَالَ: "لَيْسَ حَيْثُ تَذْهَبُ إِنَّمَا هُوَ إِذَاعَةُ سِرِّهِ"*. وعن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، أنه قال: *"الإِذَاعَةُ خِيَانَةٌ"*. وقال عليه السلام: *"إِذَاعَةُ سِرٍّ أُودِعْتَه غَدْرٌ".
ويجب أن تعلم قارئي الكريم أن عالم اليوم وبفضل التكنولوجيا المتطورة لم يُبقِ للسِّرِّ مَأمَنٌ، فكلُّ ما نفعله صار مَشاعاً يمكن لأيِّ كان أن يطلع عليه، فضلا عَمَّن يملك الدافع للمراقبة والمتابعة. فالحذر كل الحذر.
بقلم الباحث اللبناني في الدراسات القرآنية السيد بلال وهبي