جاء ذلك في كلمته التي ألقاها باسم الأمانة العامة للعتبة العباسية المقدسة، في مهرجان فتوى الدفاع المقدسة السنوي الثقافي بنسخته السابعة الذي يقيمه قسم الشؤون الفكرية والثقافية، وقسم مؤسسة الوافي للتوثيق والدراسات، وجمعية العميد العلمية والفكرية، احتفاءً بالذكرى السنويّة لإطلاق فتوى الدّفاع المقدسة وتحت شعار: "المرجعيّة الدينيّة حصن الأمة الاسلاميّة"، على قاعة الإمام الحسن (عليه السلام)، ويستمر ليومين.
وجاء في نص الكلمة:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه وعلوه مكانه، حمدًا له بجميع محامده كلها على جميع نعمه كلها، وأزكى الصلاة وأتمّ التسليم على سيد من خلق وصفوة من اصطفى وعلى أهل بيته محال معرفة الله وسدنة رسالته وموضع هداية وبعد.
فماذا لو أن إنسان القرون الذاهبة، لم يترك لنا أثرًا من نقوشٍ أو رسومٍ أو كتابة.
وكيف لنا أن نعرف عنه أشياء كالتي عرفناها من خلال آثاره الباقية؟
ماذا لو أنّ الفكر الإنساني القديم، لم يدوّن؟
كيف لنا أن نعرف عنه أشياء كالتي عرفناها في المدونات والمخطوطات التي وصلتنا.
ماذا لو أنّ جهة وحيدة أخذت على عاتقها مهمة النقل والتدوين؟
هل سيسلم نقلها وتدوينها من نوازع نفوس أصحابها، وأهوائهم، وأمزجتها، وأيديولوجياتهم، لاسيّما في ظل احتراب عنصري أو قومي أو طائفي أو ديني أو نحو ذلك؟
هذه التساؤلات ونحوها، تضعنا أمام خطورة اللا تدوين، مثلما توقفنا على خطورة التدوين المضاد للحقيقة.
من هنا، كان لابدّ من خيار التدوين لكل شيء رافق تلك اللحظة الزمنية الفارقة من عمر الزمن المعاصر، التي أعادت للبلاد كينونتها، ولإنسانها إنسانيته، وأعني لحظة (فتوى الدفاع الكفائي) التي صدحت بها حنجرة المرجعية العليا.
ذلك التدوين أراد له سماحة المتولي الشرعي للعتبة العباسية المقدسة السيد أحمد الصافي، أن يصون الصحائف التي أرّخت لمرحلة الفتوى، من عبث أيادي الزمان، والأقلام المأجورة التي بها (تنحرف الحقائق، وتنقلب الموازين، وتغيب المصداقية)، كما نصّ في كلمته التي قدم بها لسفر الموسوعة الخالد.
لقد أرادت الموسوعة أن توثق تلك اللحظة من صدور رجالاتها، وعلى مقربة من فضاءاتها، وتحت عين زمانها، كي لا ندع فرصةً أو مجالاً لأهواء أعدائها بنسج ما يريدون من تشويهات وأباطيل ضالة مضللة.
لا شك أن حدثًا، كهذا أولى بالتوثيق، والتدوين، والحفظ؛ ولعله الحدث الأهم في حياة العراقيين، أقول في حياة؛ لأنها حقًّا لحظة عدل الحياة بأسرها، لحظة صادمة بين أن يحيا الإنسان كما شاءت له إرادة بارئه، حرًّا كريمًا، أو يموت ليولد؛ فتموت دولة الخرافة إلى غير ذي رجعة.
لقد بدت الحياة وقتذاك جحيمًا، والبلاد مهددة بالانقراض، وتغلغل السواد في فضاءاتها، فأظلم حتى سدّت منافذ الأمل والصبر، أو كادت، والفساد قد استشرى أو كاد، والحق قد خضع واستخذى، والشر قد أبدى ناجذيه، بقطعان داعش التي خرجت من جحور الأزمان الغابرة، ليعتمَ بها مشهد الحياة.. حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الأهلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ خُذِلوا، وتُركوا، جَاءَهُمْ الأمل، وتجلى لهم بسليل البشير النذير، سيد النجف لـ(يَقُول هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ) فيحمل العراقَ كلَّ العراق في سفينة الفتوى ويستنقذه من طوفان ذلك الزمن.
لما تزل أيها الأخوة، صور تدافع العراقيين على مقرات التطوع راسخة في الأذهان، وتزاحمهم حول قاطرات النقل، كأنما يتزاحمون على عين ماء في صحراء، وسوقهم إلى خط النار كأنما يساوقون إلى الجنة زمرًا، يتسابقون للوصول إلى خط التماس مع داعش، كأنما هم على موعد مع خزنة الجنان، ليقولوا لهم: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ.
وما هي إلا لحظة ولاء وانتماء، زُفَّت فيها غرر الشباب، حتّى انجلت الغمة، وقطف العراق أطايب التحرير من غرس الفتوى، ومن نمير معينها أسال الحياة.
وظل علينا الآن أن نفي حقّ الفتوى وصاحبها، ونوثق (سِيَرَ من نفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهمْ وَأَنفُسِهمْ)، وندون التضحيات، ونصونها بقفص من الضلوع، في هذه الموسوعة وفي ندوات ومهرجانات ومؤتمرات كهذه ومن أولى إمارات الوفاء لهم، أن ننشر في الآفاق تضحياتهم، ونخلد ذكرهم؛ ذلك أن التاريخ _حديثًا ومعاصرًا _ ما انفك يسوّق لنا أسماء أجنبية كنماذج للبطل المُخلِّص، أو المواطن المخلص، مع أن تلك الأسماء لا يجمعنا وأيانا جامع عقائدي أو مذهبي أو ديني.
مازلنا ننتظر تلك اللحظة التي ترنو فيه أنظارُ أبناءِ جلدتِنا إلى أنفسهم، وتهفو أسماعهم إلى صدى تلك القصص التي لو عرفها الإنسانُ الآخر لهفى لجرسها سمعه، ولتعلقَها شغافا، وها نحن أمام نماذج عديدة، لفتية، وشباب، وكهول لا يستطيع من يسمع سيرها إلا أن يُكْبِرَ فيها حبها لوطنها، وولائها لدينها، واستبسالها.
خذوا أمثلة لكهول ما أرادوا أن يفهموا، وهم الألصق بفهم كل ما يصدر عن الحاضنة الدينية، لم يسلِّموا لنصّ الفتوى وعنوانها الكفائي، فهرعوا مع أبنائهم، تاركين الديار خالية إلا من نسوة لا تقل فهما وإيمانا عنهم.
خذوا أمثلة لفتية آمنوا بالفتوى وزادهم الله هدى، غيروا في وثائقهم وأعمارهم الطرية، واستبدلوا صورهم الغضة التي لم تشهد رتوشًا للحى أو شوارب بصور أخرى مشروربة، أو ملتحية لا لشيء إلّا ليكونوا في صميم من تشمَلُهم الفتوى بالوجوب وهي ليست بواجبة.
ونماذج أخرى لشبيبة لم يرضخوا وهم على مقصلة داعش، لنزوات التبرؤ من المعتقد والدين، وماتوا على ما عاشوا عليه...
آن للتاريخ أن ينظر إلى هذه النماذج نظرا ليس كنظر المغشي عليه، ويميز الخبيث من الطيب..
وآن الأوان ان نتحدث عمن أحسنوا الحسنى وزيادة، أبطال فتوى الدفاع عن الأرض والعرض والمُقدّسات.
وقبل كل ذلك آن لنا أن نجدد العهد لصاحب الفتوى، وأن نعطيها حقها من المكانة من خلال الدرس والتأمل، وأن نمد أواصر القربى بينها وبين لحظات تاريخية قريبة وبعيدة، في سلسلة مؤتمرات فتاوى الدفاع المقدسة وبنسخته هذه، بجهد طيب مشترك بين مفاصل العتبة العباسية المقدسة.
شكرًا
بل أكثر وأكبر من (شكرًا) للشهداء والجرحى وابطال الفتوى.
نشكر تلك النوايا الطيبة التي وقفت خلف هذا المشروع العظيم، والأفراد والمؤسسات الّتي آزرتنا.
نشكر رجالات الموسوعة، ونثني على صبرهم وعزيمتهم
نشكر الباحثين المشاركين في هذا المهرجان والحاضرين
نشكر مفاصل العتبة العباسية المقدسة التي احتشدت لتقيم هذا المهرجان
ونعول على الإعلام الحر النزيه ليمارس دوره في أن يفيَ الفتوى وصاحبها حقوقهم وهو جدير بالوفاء
والله من وراء القصد
وآخر دعوانا هو أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير الأنام، وعلى آله الطيبين الطاهرين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.