رُوِيَ عن الإمام علِيَّ عليه السلام أنه قال: "آفَةُ الْهَيْبَـةِ الْمِـزاحُ".
الهَيبة: مَظْهَر يُوحي بالوَقار والإجلال والتعظيم والمخافة، يقال: رجُلٌ مُهاب الجانب، أي عظيم الشأن، ذو جلال ومنزلة رفيعة، يخشاه الناس لجلال قدره فلا يهجمون عليه بما يهجمون به على غيره.
أمّا المزاحُ: فهو الدُّعابَةُ والمُباسَطَةُ، وضِدُّهُ: الجِدُّ، يُقال: مَزَحَ الرَّجُلُ، أيْ: داعبَ غَيرَهُ مُباسِطاً لَهُ، والمَزحَةُ: المَرَّةُ مِن المزاحِ. وأَصلُها: مُضاحَكَةُ الغَيرِ ومُلاعَبَته بلُطفٍ، يُقال: مازَحَ الأَبُ ابنَهُ، أيْ: ضاحَكَهُ ولاعَبَهُ بلُطفٍ.
ومِن مَعانِيه أيضاً: الفُكاهَةُ، والهَزْلُ، والمَرَحُ. تتفق معي قارئي الكريم في أن من المزاح ما يُزيل الهَمَّ، ويكشِف الغَمَّ، ويدفع عن النفس الاكتئاب، وفيه ترويح عن القلوب وإزالة لأحزانها، أو التخفيف منها على الأقل، والإنسان يحب ذلك بل يحتاج إليه بين الفَينَة والفَينَة خصوصاً إذا ما ساءَت الظروف وادلَهَمَّت الخُطوب وكَثُرت الأزمات، فتراه يلجأ إلى المزاح والدعابة للتغلُّب عليها، وهذا ما نشهده في أيامنا الصعبة هذه.
وقد رُوِيَ عن النبي الأكرم ـ صلى الله عليه وآله ـ قولُه: "رَوِّحُوا القُلُوبَ سَاعَةً بَعدَ سَاعَةٍ، فإنَّ القُلُوبَ إِذا كَلَّتْ عَمِيَتْ".
وترويح القلوب معناه إدخال الراحة والسرور عليها، والأخذ بأسبابه، كي يتجدَّد للنفس نشاطها فتقبل على العبادة والعمل للدنيا وللآخرة، بشَغَفٍ ونشاط.
فالغرض من ترويح القلوب هو الحفاظ عليها من المَلَل والكَلَلِ والسَّأَمِ، وبهذا يتبين أن الترفيه ليس مقصوداً بذاته، وإنما الهدف منه إراحة القلوب وتنشيطها والمحافظة على حيويتها، ومن ذلك يمكننا أن نستنبط ضابطة عامة يمكننا أن نرتكز عليها في إباحة الترفيه والدُّعابة والمزاح ما لم يكن لاهياً للإنسان عن واجباته أو مُضِرّاً بمكانته وكرامته وهَيبته.
وقد جاء في الروايات الشريفة كما عن رسول الله صلى الله عليه وآله: المُؤْمِنُ دَعِبٌ لَعِبٌ" وجاء عن الإمام الصادق عليه السلام كما يروي الفضلُ بن أبي قُرَّة: "ما مِنْ مُؤْمِنٍ إِلّا وَفِيْهِ دُعابَةٌ" قلت: وما الدعابة؟ قال عليه السلام: "المزاح".
وعن يونس الشيباني قال: قال أبو عبد الله الصادق عليه السلام: "كَيْفَ مُداعَبَة بَعْضكُم بَعضاً؟". قُلتُ: قَليلٌ. قال عليه السلام:" فَلا تَفْعَلوا، فَإِنَّ المُداعَبَةَ مِنْ حُسْنِ الخُلُقِ، وَإِنَّكَ لَتُدْخِلُ بِها السُّروَر على أَخِيكَ، وَلَقَدْ كانَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وآله ـ يُداعِبُ الرَّجُلَ يُريْدُ أَنْ يَسُرّهُ".
إِنَّ المُؤمِنَ دَعِبٌ بلا شَكٍّ، فهو إنسانٌ والإنسان كُتلة من المشاعر، وذو أحاسيس مُرهَفَة وعواطف جَيّاشة، المؤمن ليس حَجَراً أَصَمّ، ولا آلة ميكانيكية، فهو كما يحتاج إلى الجِدِّ يحتاج إلى الدُّعابة، وكما ينفعل مع الأمور المُحزِنَة، ينفعل مع السرور والفرح ويحتاج إلى الانبساط والترويح عن النفس، الفرق بينه وبين غيره أنه شديد التوازن في أموره، إنه يمزح ولكن مزاحه لا يتخَطّى حدود الحلال إلى الحرام، ويداعب ولكن ليس في دَعِبِه باطلُ، ويمازح ولكنه لا يجعل من نفسه شخصاً هزلياً فُكاهياً.
فالمؤمن شخص حكيم في جميع أحواله، إن مازَح أحداً فإنه يمازحه لهدف نبيل يريد أن يُدخِل السرور إلى قلبه، ويُسَرّي بذلك عن نفسه، فإِنْ تحقَّقَ له ذلك اكتفى بذلك القَدْرِ ولا يتمادى فيه، فإِنَّ كثرة المزاح تُقَلِّلُ الهيبة وتُسقِط الوَقار، وتُميت القلب، وتؤدي إلى خِفَّة العقل، وتفضي إلى الغَفْلَة عن ذكر الله تعالى، وتفتح باباَ للشيطان لينفذ إليه، هذا على المستوى الشخصي.
أما على المستوى الاجتماعي فإنَّ الإكثار من المزاح يؤدي إلى قِلَّة الحِشمة بين الناس، وإلى فقدان الاحترام بين الأفراد، وقد يؤدي إلى الشَّحناء والبَغضاء وظهور العداوة بينهم، وقد يُفضي الأمر إلى النزاع والاقتتال، وكم من مزحة كانت سبباً للاختلاف والشقاق، وكم من مزحة قطعت حبال المَوَدَّة بين متحابين، وأشعلت نزاعات بين مؤتلفين، وكم من مزحة أسقطت كرامة، وهتكت عِرضاً، وكشفت سِتراً، وتسبَّبَت في طلاق وشَتَّتْ أُسرَة، وأدَّت إلى خلخلة في المجتمع، وأثارت عواصف من الردود المتبادلة والشتائم والسُّباب، وكم من مزحة أثارت خلافات مذهبية وطائفية، ويكفي أن نتذكَّرَ ما كان وما زال يحصل نتيجة المزاح في البرامج الفكاهية التي تبثُّها القنوات التلفزيونية اللبنانية وغير اللبنانية.
بقلم الباحث في الدراسات القرآنية السيد بلال وهبي