البث المباشر

هل نحتاج إلى نقد الذات؟!

الأحد 30 إبريل 2023 - 18:12 بتوقيت طهران
هل نحتاج إلى نقد الذات؟!

النّقد الذّاتيّ يعني الوقوف وقفةً هادئةً مع الذّات في عمليَّة اكتشافٍ للداخل، من أجل معرفة مَواطن الضّعف ومواطن القوّة فيها، للوصول إلى فهم أفضل لمنطلقاتها وحركاتها، والحصول على وعي دقيق لأفكارها ومشاعرها، كأساس لتقييم الذّات من خلال طبيعة العمل، أو تقييم العمل من خلال دوافع الذّات.

[ونحن بذلك نعبِّر] عن حاجتنا الملحَّة إلى هذا الأسلوب العملي في مواجهة واقعنا الذاتي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي والفكري، لأنَّ ذلك هو السبيل الأمثل الذي ينبغي أن تسلكه عملية النمو والتطوُّر في حياتنا العامّة والخاصّة، لنتلافى كثيراً من الأخطاء والانحرافات التي قد تضيع معالمها في الطريق، إذا لم تلاحقها عين الناقد ولم يناقشها فكره...

إنّ حاجتنا إلى النقد الذاتي تنبع من حاجتنا إلى فهم أنفسنا في أبعادها الداخليَّة والخارجيَّة، وإلى فهم واقعنا بكلّ ما يشتمل عليه من ظواهر وحركات، فإنَّ الإنسان الَّذي لا يعرف نفسه، لا يملك معرفة وجهة حياته، لأنَّه لا يدري من أين تنطلق خطاه، وإلى أين تسير.. فهل تنطلق من قاعدة المنفعة الذاتيَّة، أو من واقع الرسالة العامَّة؟ وهل تتّجه إلى القمّة أو تنحدر إلى الحضيض؟.

فقد يختلط الأمر على الإنسان، فيخيَّل إليه أنَّه يسير على أساس الحقّ في لحظات الانفعال المرتجل، ولكنَّه إذا فتَّش نفسه، اكتشف أنّه يسير على أساس ذاتيّ محض، لا يتّصل بالحقّ من قريب أو بعيد، لأنَّ الدوافع الحقيقيّة للحركة لا تطفو على السطح، بل تستقرّ في أعماق النفس ودهاليز الشعور بشكلٍ لا شعوريّ، فلا تظهر إلَّا للبحث العميق الذي يفتِّش ويحلِّل ويحاكم.. وتبقى الدَّوافع تعطي للعمل طابعه الظَّاهري الَّذي يخدع الأعين التي يبهرها السَّراب.

وهكذا قد نجد أنفسنا وجهاً لوجه أمام الواقع الَّذي نتخبَّط فيه ونعيش في أجوائه، سواء كان واقعاً دينياً أو أساسياً أو اجتماعياً أو اقتصادياً، فقد يخضع فهم هذا الواقع لتفسيرات سطحية مرتجلة ناشئة عن النظرة الارتجاليَّة التي تستسلم للأسباب القريبة الجاهزة التي تبدو للعين من أوّل نظرة، دون أن تكلّف نفسها عناء البحث عمّا وراء ذلك من أسباب، أو تتعرَّف إلى الجوانب البعيدة التي ساهمت في ولادة هذه الظاهرة أو نشوء هذا الواقع.

أمّا خطر ذلك، فيتمثّل في تشويه الصورة الحقيقيّة للمشكلة في ظلّ الواقع، ما يسبّب بعداً عنها وعن الحلول العمليَّة الصحيحة لها.. فربّما يكون الدّاء في جانب، وتكون المعالجة في جانبٍ آخر، وربّما ترتبط المشكلة بأكثر من جهة، ويكون الحلّ منطلقاً من جهة واحدة..

وهكذا، تضيع الخطوط التي يسير عليها الإنسان في الوصول إلى فهم الواقع أو حلّ مشكلته.

ولن يختلف الأمر في هذا الموضوع، بين أن يكون الموقف على مستوى واقع الفرد، وبين أن يكون على مستوى واقع المجتمع أو الأُمَّة بشكلٍ عام، لأنَّ كلًّا منهما يرتكز على أساس طبيعة الفهم الحقيقي الَّذي يشارك في علاج الواقع، أو الفهم الخاطئ الَّذي يساهم في تعقيده وإرباكه من جديد.

فهناك بعض الحالات التي تعيش فيها الأُمَّة بعض الهزائم أو الانتصارات، فتحاول دراسة الأسباب التي هيَّأت للهزيمة، أو شاركت في النصر، فإذا انطلقت من خلال النظرة السطحية التي تحاول أن تنظر إلى الجوانب الظاهرية للأمور، كانت النتيجة ابتعاداً عن القضيَّة، وعن الحلّ الصَّحيح للمشكلة، أو عن الدرس العملي الذي نستفيده منها للمستقبل، فقد نرجع النصر إلى القوّة الذاتيَّة التي كنّا نملكها في المعرفة، ونغفل بقيّة الأسباب التي قد يكون من بينها الموقف السياسي العالمي أو الإقليمي الذي استطاع أن يعطي بعض الفرص، أو يخلق بعض المؤثّرات، وستكون النتيجة أنّنا سنعتبر القوّة كلّ شيء، فيخيَّل إلينا أنّها الأساس الذي ترتبط به معارك المستقبل المماثلة كما ارتبطت به معارك الماضي، فنتصرَّف على هذا الأساس، بينما يكون الموقف السياسي مختلفاً كلّ الاختلاف عن الموقف في المعركة الماضية.

وربّما يكون للظروف الخاصّة الداخليّة والخارجيّة التي يعيشها العدوّ المهزوم، بعض الأثر في هزيمته، فإذا لم ندخلها في حسابنا - في حالة تحليل الواقع - فستكون النتيجة لمصلحته في الجولة القادمة، عندما تتغيَّر ظروفه التي ساهمت في انتصارنا أو في هزيمته.

أمّا في حالة الهزيمة، فقد نسيء فهم الأسباب الَّتي شاركت فيها، فنرجع السَّبب إلى ظروف خارجة عن إرادتنا أو قدرتنا، في محاولة ساذجة للتَّبرير، تعتمدها الشعوب المهزومة في عملية ساذجة لحفظ ماء الوجه، أو إيحاءٍ ببقايا الكرامة.

ومن الطبيعي أنَّ ذلك سوف يخفي الأسباب الحقيقيّة التي تكمن في تصرُّفاتنا العمليَّة في واقعنا الفكري والسياسي والاجتماعي، فربّما يكون لها أكبر الأثر في ذلك كلّه، دون أن نلتفت إليها أو نحسب لها أقلّ حساب.

ولن نحتاج إلى جهد فكري كبير لنفهم أنَّ ذلك سوف يكرّس الهزيمة للمستقبل، كما كرَّسها للماضي، لأنَّنا سوف نظلّ حيث نحن نراوح أقدامنا في مواقع الهزيمة وبدايات الطريق، نتطلَّع إلى خارج قدراتنا وإرادتنا، بعيداً من الواقع الداخلي الذي ترقد في أعماقه الهزيمة.


* من كتاب "مفاهيم إسلاميّة عامّة"

السيد محمد حسين فضل الله

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة