البث المباشر

مركزية الأصالة في الفكر الاسلامي -۲

السبت 2 فبراير 2019 - 10:01 بتوقيت طهران

الحلقة 218

الاصالة تعني تطلب القيم الاساسية للامة في مجال الحركة صيانة لكيانها من الذوبان والاضمحلال مع الاستفادة من التجارب الانسانية دونما اضاعة للهوية، وهذا يعني تكامل الحاضر مرتبطاً بالماضي ومتصلاً بالمستقبل، وليست الدعوة للاصالة تستهدف الجمود ولا تقليد الماضي وانما هي الارتباط بالخطوط الممتدة بين ماضي هذه الامة ومستقبلها مروراً بالحاضر اي الارتباط بالمنابع الاصلية الاصيلة التي انطلق منها الفكر الاسلامي في نقاءه الناصع الحي.
اجل، ان مفهوم الاصالة في الفكر الاسلامي يختلف عنه في الفكر الغربي ذلك الفكر الذي ساقته نظرية التطور سوقاً الى الاعتقاد بالتغير المستمر الشامل فلم يعد يهمه قضية الاصالة الا ضلالها، من هنا تختلط نظرة الغرب الى الماضي بكثير من الاحساس بالاستغناء عنه او محاولة التمرد على القديم وذلك انطلاقاً مع التاريخ الطويل الذي واجه به الغرب ماضيه اللاهوتي وتراثه المتصل بالدين والزهادة والرهبانية، والواقع ان الدعوة الى تغليب العصرية على الاصالة في حياة الامة المسلمة انما هي دعوة مضللة زائفة، كيف؟ ان كلمة العصرية في الفكر الغربي تحمل صورة الانسلاخ من العقائد والتحرر من القيم وعلى حد تعبير الكاتبة الامريكية المسلمة مريم جميلة، ان البلاد الاسلامية قد وقعت فريسة مصطلحات خاطئة منها مصطلح العصرية وقد جنى هذا المصطلح على الاسلام جناية كبرى، وقد اشيع ان الرجل العصري يراد به رجل لا يرتضي الاسلام ديناً، كما يراد به رجل يحاول ان يفسر الدين والعقيدة تفسيراً حدثاً يثبت به ان ليس هناك تعارض بين القيم الاسلامية وقيم الحضارة الغربية ولا شك ان العصرية او العصرنة بهذا المعنى هي فكرة تغريبية خطيرة تهدف الى تحريف الاصول الاسلامية لتبرير الواقع الحضاري المتغرب بما فيه من مخالفات ومعارضات لمفهوم الاسلام او مفهوم الدين عامة.
هذه العصرية التي يراد لها ان تشيع انما هي محاولة لفرض مباديء واهداف غربية ترمي الى احتواء الفكر الاسلامي وجعله خاضعاً للواقع الغربي في قيمه ومذاهبه مع تجاهل واضح لما بين الفكر الاسلامي والغربي من تباين عميق في قضايا كثيرة وانه لا سبيل الى تحقيق هذه العصرنة المزعومة الا بأخضاع للفكر الاسلامي الفكر الغربي وهو مما لا يمكن ان يحدث. ان الفكر الاسلامي بأصوله القائمة على التوحيد كان دائماً قادراً على ان يحتفظ بذاتيته الخاصة وبأصالته المتميزة، وقد عجزت كل القوى حتى في احلك الظروف ان تصهره او تخضعه او تفقده مقوماته، واذا كانت الفلسفة اليونانية قد استطاعت ان تحتوي الديانة والفكر اليهودي ثم احتوت الديانة والفكر المسيحي فأنها قد عجزت عن احتواء الاسلام والفكر الاسلامي الذي استطاع ان يتحرر منها وان يكشف عن منطقه وذاته مستمداً اصول ذلك كله من القرآن الكريم نفسه، ومتى وقف الاسلام موقف الثبات والصمود امام محاولات احتواءه او صهره وصف ذلك دعاة التغريب انه جمود وتعصب وهي كلمات ظالمة لا تستطيع بما تحمل من ارعاب وتشهير ان تخضع الاسلام وفكره للسيطرة الغربية.
وقد تنبه العديد من المفكرين الغربيين المنصفين الى استقلالية الثقافة الاسلامية وتميزها فكراً وتاريخاً وبلاغة بحيث لا يمكن تفسيرها وفق قوالب المناهج الغربية التي وضعت لفكر اخر بل لابد من تفسيرها وفق المنهج الاسلامي الاصيل، اما اذا كانت المعاصرة تعني حركة الفكر الاسلامي الى مواجهة الحياة العصرية والالتقاء بالحضارات الاخرى والفكر البشري اخذاً وعطاءاً ورفضاً فأن هذا الامر لا يتوقف في يوم من الايام، فقد كان الفكر الاسلامي منفتحاً دائماً قادراً على الاخذ والعطاء وكانت له من اثاره المتطورة ما يمكنه من الالتقاء بالمفاهيم البناءة في مختلف الميادين والمجالات. ان الاسلام بقيمه الاصيلة الثابتة لم يكن عاجزاً عن الحركة والتقدم والعطاء بل ان هذه القيم الاساسية من عقيدة وشريعة واخلاق هي اقوى الحوافز لاعطاء البشرية قيمة انسانية اعلى من مفهومها المادي المحض، وليس من شأن الاسلام على الاطلاق ان يبرر انحراف الفكر الغربي او الحضارة الغربية القائمة او ان يقبل من مفاهيمها ما يتعارض مع جوهر التوحيد او ما يضاد اصوله القائمة على شجب الربا والاباحية والالحاد والوثنية.
نعم، استطاع الاسلام ان يحرر الانسانية من اعظم اغلالها وهي العبودية للبشرية واستطاع ان يحرر الفكر البشري من اقسى قيوده وهي الوثنية، وبهذا اطلق مفاهيم الحرية والعدالة التي عجزت الحضارة الغربية اطلاقها والتي باتت معضلة العصر وازمة الانسان المعاصر، يضاف الى هذا ان تكامل الاسلام يجمع بين الروح والمادة والعقل والقلب والدنيا والاخرة مما جعل له قيماً عقلية ونفسية وسعت مجال انسانيته وسماحته وقضت على كثير من الصراعات والازمات خاصة ازمة القلق والضياع والتمزق التي يعيشها الفكر الغربي، اما الميراث الاسلامي فهو ليس تراثاً قديماً متخفياً منفصلاً عن الواقع ولا عن المجتمعات بل هو ميراث حي مليء بالحيوية ولم يتوقف عن التفاعل في المجتمع والفكر خلال اربعة عشر قرناً كاملة دون انفصال وهو تراث بناء ما تزال مفاهيمه نابضة بالحياة قادرة على انقاذ البشرية من المحن والمعضلات.
ان مفهوم الاصالة في الفكر الاسلامي انما يقوم على اساس الحركة الى المعاصرة دون افتقاد نقطة البدء ودون الانفصال عن المتابع والضوابط والحقائق الاصيلة التي منحت المسلمين ذاتيتهم ومنطلقهم ولا ريب ان التجارب القاسية التي مر بها المسلمون في مواجهة الاستعمار والغزو الثقافي تجعلهم اليوم اشد حذراً من الاستسلام للاطر الوافدة وتجعلهم اشد حرصاً على ان لا تحتويهم المناهج والمذاهب الغربية، بعد ان تبين لهم ان كل الازمات التي وقعوا فيها والاخطار التي تتصل بنكساتهم المتكررة انما جاءت من ارخاء قبضتهم عن الاصول الاصيلة ظناً منهم ان الجديد الوافد سيكون وحده الذي يهب القدرة على الابداع ويمنح موهبة التقدم المستمر ونحييكم، شكراً لاستماعكم.

*******

 

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة