هذه المنازلة لأفراد من خيرة آل بيت النبوة إزاء جيشٍ كبير مدجج بالسلاح والعطايا، أخذت حيزا كبيرا من الاهتمام والدراسة بمعطياتها التاريخية والإنسانية والمعرفية، وشكّلت الذروة في ذاكرة خزانة التاريخ وإرثه المنصف، لما تحمله من معانٍ سامية في رفض السياسات الجائرة والظلم والاستعباد بكل أشكالهما، لقد أصبحت قضية استشهاد الامام السبط، مثالا للتضحية والفداء لإحقاق الحقوق وانتزاعها من سارقيها من دون مهادنة أو تسويف.
ومن خلالها انطلق المسلمون وأحرار العالم لاستعادة موروث ذكرى معركة الطف الخالدة في الوجدان، وإحيائها بفخر واعتزاز بما يليق بها من شعائر وطقوس، فستبقى قضية الحسين عليه السلام في ضمائر ونفوس الأمة بالرغم من مرور القرون والحقب والسنوات، مادامت هناك قلوب تهتف وتخفق باسم ابي الأحرار الحسين الذي الهم أحرار ونبلاء العالم صرخة (لا) في وجوه الطغاة والظالمين.
أوار ثورة لا تنطفئ
يقول الباحث الاجتماعي كريم عبد المحسن، لقد «اعتاد عشاق الحسين بلهفة قلوبهم وحبهم الصادق للحسين عليه السلام على تكرار ندائهم المستمر الذي يعد بمثابة صرخة مدوّية تهز أركان الظلم»، وأضاف «ستظل حناجر الأحرار تهتف بذكرى هذه الثورة المعطاء جيلاً بعد جيل، فشعلة الحسين لا تنطفئ جذوتها مهما تقادمت السنون».
لافتاً الى أن «الجماهير والمواكب المنتشرة بطول البلاد وعرضها، تؤكد أن ثورة الحسين ليست مجرد معركة حربية، بل موقف ثوري ترسخ في العقول والقلوب ليعيد للإنسان كرامته المهدورة، لان منبع الثورة وأساسها هو تجسيد لكرامة الإنسان قبل كل شيء».
شعائر خالدة
ديمومة الشعائر الحسينية لن تنتهي مادام الحسين يستقر في الضمائر والقلوب، تقول الأكاديمية مريم حمزة، ان «احياء الذكرى الحسينية يعد تعبيراً عن الذات البشرية المعذّبة والمكتوية بحزن سرمدي»، وأضافت «ذكرى استشهاد الامام السبط، مثل شعلة متقدة غرست في كل زمان ومكان وهي ديدن كل حرّ مستمر بالنضال والتضحية في سبيل المبدأ والعقيدة».
وأوضحت حمزة «تجدد الجماهير دفعات الولاء في كل عام، لتعطي للثورة روح التواصل والديمومة، والكل تشارك في طقوس عظيمة في التكافل الاجتماعي بما يمنح من مأكل ومشرب وألبسة وتوفير السكن للزائرين، ما يعكس ملامح الكرم والضيافة وتوفير الاحتياجات الطبية وعيادة المرضى الوافدين الى المواكب الحسينية وعلى امتداد التاريخ صارت الجماهير تتوافد في أيام عاشوراء الى كربلاء لتجدد ولاءها للامام الحسين، أباً للأحرار ورمزاً خالداً للثوار».
معركة المعارك
الباحث الموسوعي نجم عبد الحميد، يقول «معركة الطف في كربلاء، تظل حدثاً بارزاً، أسهم في إعادة صياغة تاريخ مجيد للبشرية جمعاء، لما تحمله من معانٍ عديدة كالتضحية والإصرار على المضي بطريق الحرية والحق وانتصار الدم على السيف»، ويضيف «من خلال الطف وخلودها، بقيت رايات الرفض مرفوعة شامخة بوجه الظالمين لتصبح كربلاء قبلة للثوار وعاشوراء مشعلاً ينير درب الثائرين يخلدها الامام الحسين عليه السلام في كل مكان وزمان».
واضاف عبد الحميد «كان لهذه المعركة وقع هائل في النفوس وقضية إنسانية بليغة جدا، وقد جسّد الحسين عليه السلام تواصله مع الله في مسيرته الكربلائية وعواطفه بالوعي الفكري بدعائه الى الله تعالى قائلا : (اللهم انت ثقتي في كل كرب ورجائي في كل شدة وأنت لي من كل أمرٍ نزل ثقة وعدة فكم من هم يضعف فيه الفؤاد وتقل فيه الحيلة ويخذل فيه الصديق ويشمت فيه العدو فأنزلته بك وشكوته اليك رغبة فيه اليك عمن سواك ففرجته وكشفته وكفيتنيه فأنت لي ولي كل نعمة وصاحب كل حسنة ومنتهى كل غاية) .
شجاعة نساء الطف
تبقى للبطولات ذكراها ومواقفها على مر التاريخ من رجال امنوا بصدق ثورة أبي عبدالله الحسين، ومن هذه المواقف الخالدة، شجاعة النساء في اغلب المعارك وفي طليعتهن زينب الكبرى ابنة أمير المؤمنين وفاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين عليهم السلام.
تثير الأديبة نجاة كاظم، شجن وصلادة هذه المواقف التي شهد لها التاريخ لسيدتنا زينب الكبرى بقولها «وقفت بنت علي بن ابي طالب أمام الجبابرة والطغاة كالطود الشامخ في معركة الطف وضاهت في صلابتها امام زمرة الجلادين رغم لهيب حشاها على أخيها الإمام الحسين عليه السلام والذي رأته جسدا بلا رأس»، مضيفة «بقيت زينب شامخة عظيمة صابرة، وتألقت بها شمس الإسلام وازدانت عظمة وبهاء، مخاطبة يزيد بن معاوية في مجلسه وهو متباهٍ في نصر يشبه الهزيمة أو الخسران، قائلة له بتحدٍ شامخ وصلابة لا يمتلكها الا بيت النبوة الاطهار(لا يدرس أثره ولا يمحى رسمه على كرور الليالي والأيام وليجتهدن ائمة الكفر وأشياع الضلال في محوه وطمسه فلا يزداد أثره الا علواً).
مسيرة احتجاجٍ صامتة
تعد الزيارة الأربعينية من الشعائر الإسلامية التي تلقى اهتماماً كبيراً في العراق، اذ يتوجه فيها الملايين من الناس باندفاع فطري الى مدينة كربلاء في العشرين من شهر صفر الحرام من كل عام تعاطفاً وتأثرا بشخص الامام الحسين عليه السلام الذي ضحى بكل شيء من اجل إرساء مبادئ الحق الذي جاء به محمد ـ صلى الله عليه وآله ـ ومن اجل تثبيت العدالة التي جاء بها القرآن الكريم.
ومشية الأربعين هي مسيرة راجلة صامتة في معظم الأحيان، ترافقها قراءة الآيات القرآنية وبعض الأناشيد الإسلامية أو الأدعية الموروثة، اذ يخرج الناس من مدنهم وقراهم من أقصى الحدود وهناك من يأتي من أراضٍ وبقاع أخرى من خارج العراق وينتظمون بشكل عفوي فرادى وجماعات وفي طوابير تجمع الغني والفقير شيباً وشباباً، نساء ورجالاً، أصحاء ورياضيين.
ولا تخلو هذه الطوابير من مئات المعاقين الذين يأتون على عرباتهم الخاصة او على عكازاتهم بعد السير لأيام ويقطعون مئات الكيلومترات صوب كربلاء.
كل الطرق تؤدي إلى كربلاء
تتوجه هذه الجموع الغفيرة الى مدينة كربلاء في هذه المسيرة الراجلة بأشكال مختلفة، فهناك من يسير محتذياً وهناك من يمشي حافياً، حسب النية، فيتحول هؤلاء عفويا الى «مخدومين»، لأنك ستجد ان هناك مبادرات طيبة من أهل الخير من أهالي المناطق التي تقع على طريق كربلاء، اذ تقام السرادق والمخيمات على طول الطريق ويقدم فيها الطعام والمياه والشاي، وأما في المناطق البعيدة فتجد متبرعين من أصحاب الشاحنات الصغيرة والكبيرة يقدمون (السندويشات) والمياه المعدنية والفواكه والطعام المعلب للزوار الراجلين مجانا تحت عنوان (خدّام الحسين) في حالة إنسانية نادرة يكون فيها الغني خادماً والفقير مخدوماً، والكل في حالة تحرّر كامل من الأنانية والغرور وحب الذات.
تفاعل وتناغم
حالة من التفاعل الايجابي ونكران الذات والارتقاء الإنساني الى مديات روحية عالية قلما نجد مثيلها في مكان آخر، اذا ما عرفنا بان هؤلاء ليسوا من نخب المؤمنين الصابرين، بل مجموعات من الناس البسيطة والعادية، ومن السواد الأعظم من المواطنين، ترى ما سر انتظام الآلاف من الناس من دون حوافز ولا صدقة من الدول المانحة ولا مساندة من الهلال أو الصليب الأحمر ولا تطبيل من اليونسكو؟، علماً ان هذا المشهد الباذخ الفائق الروعة يتكرر سنوياً منذ مئات السنين من دون توقف.
أول زائر حسيني في التاريخ
الدكتور منتصر حسن أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بكلية التربية يقول: من المعروف أن يوم العشرين من صفر يصادف أربعينية استشهاد الامام أبي عبد الله الحسين عليه السلام في كربلاء ويروى بأن الصحابي جابر بن عبد الله الأنصاري أول من قام بزيارة الأربعين، بعد أن ردّ الرأس الشريف لسيد الشهداء، ورؤوس بعض أصحابه الذين كانوا معه، من الشام على يد الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام، الذي قام بدفن الرأس مع الجسد الطاهر، وسمّي أيضاً بيوم (مَرَد الرأس) بعد رحلة مأساوية من كربلاء الى الشام في واحدةٍ من أكثر صفحات العرب والمسلمين سوادا وأكثرها خجلا.
ويروى بان الأنصاري كان قد اغتسل في نهر الفرات ولبس قميصاً طاهراً وتطيّب ثم مشى حافيا حتى وقف قرب رأس الحسين عليه السلام وكبّر ثلاثا ثم خرّ مغشيا عليه، فلما أفاق قال مخاطبا: «السلام عليكم يا آل رسول الله»، ثم انتشر خبر مأساة الحسين واستشهاده من اجل إصلاح أمة جده الرسول الأكرم محمد ـ صلى الله عليه وآله ـ فتقاطر المسلمون على زيارة عتبته ومقامه تقربا الى الله تعالى كأنموذج مثالي للإسلام الحنيف ومنهاج تطبيقي لتعاليم القرآن الكريم وقيمه السمحاء، وأسوة حسنة على خط جده المصطفى صلى الله عليه وآله.
المصدر: الصباح