البث المباشر

دعوة للإقتصاص

السبت 12 أكتوبر 2019 - 10:53 بتوقيت طهران

اذاعة طهران – قصص الصالحين : الحلقة : 74

 

كسول أنت يا عبدالله..! نعم كسول...! وستبقى تتداولك أيدي النخاسين ما دمت كسولا...!
فمن الذي يقتني خادماً أو ما يحلو لهم أن يسمونه عبداً إذا ما عرف أنه كسول..؟!
كثير هم الذين سادوك... من ثري مكة... الى التاجر اليهودي... الى غيره... وغيره... وكل لا يتقبلك، ويعيدك الى صاحبك النخاس، كسلعة بائرة...!!
لا يدري... أيصدق قول النخاس؟!
- لقد ساقك الله هذه المرة الى خير رجال هذا الزمان...!
- كلمة مبالغ فيها...! أليس كذلك..؟! وغير مستبعدة من نخاس...!... هكذا تصورت في البداية... لكنك، وما ان بدأت العمل لصالح سيدك الجديد، حتى وجدته أهل لذلك وأكثر...
إسمه: علي بن الحسين... لكن لا أحد يسميه بهذا الإسم، بل يلقبونه بألقاب شتى: زين العباد... زين العابدين... السجاد...
ورأيته لأول مرة، فبهرتك طلعته...
لا... لا... لم تبهرك، صباحة وجهه أو وسامته... بل ما رأيته من نور عجيب يشع من جبينه، بل من كل ناحية فيه، فيسبغ عليه من الهيبة والوقار، ما يصد العين عن أن تحد النظر إليه..!
ويوم كلفك – يا عبدالله – بعمارة بستانه ضواحي المدينة، كدت تخرج من جلدك فرحاً... فتلك المرة الأولى في حياتك تولى فيها هذه الثقة...
والمرة الأولى التي تكلف بمثل هذه المهمة التي ستمنحك قدراً من الحرية والإستقلال وتعفيك من الخدمة في البيوت... التي تكرهها من أعماقك..!
لم يكن يسمع لها صوت بكاء، ولا ترى لها دموع... ولكنها كانت تبكي، تبكي بحرقة... بعيون جفت دموعها...
لونها المائل للإصفرار... وأغصانها الذابلة المتدلية بحزن واستكانة تحاكي حال عجوز خرساء ثكلى، أطلقت شعرها الشائب تروم البكاء، دون أن تقوى عليه.
وأنى تلفت... طالعه ذات المشهد الحزين... الأشجار الذابلة سواقي المياه الجافة... مظاهر الحياة التي راحت تحتضر ببطء...!
وعلى طول البستان وعرضه، كان الإهمال والتضييع متفشياً... النباتات الضارة النامية في كل مكان... سياج البستان الذي أحدثت فيه الحيوانات السائبة ثغرات عدة، وراحت ترعى حرة...!!
عشرات الأسئلة تقافزت أمامه... ترى ما الذي يفعل الفلاح إذن؟! هل تسلم البستان من أجل عمارته أم خرابه...؟! ... وإذا ما كان عاجزاً، فلماذا لا يخبره...؟!
وشيئاً فشيئاً سرت في عروقه دماء الغضب، واكتست ملامحه النورانية المشرقة بغلالة رقيقة حمراء..!
والى حيث انزوى في أحد أركان البستان، كوخ صغير يؤمه الفلاح للإستراحة تقدم الرجل بخطوات هادئة وقور، رغم مشاعر الألم والغضب التي ألمت به...!
كمن يستيقظ بعد نوم عميق...! تنبه وجدانه..! هزته كلمات سيده من الأعماق..! شعر بها كأسواط لاذعة تنهال عليه... أشد وقعاً من السوط اليتيم الذي قرعه به...!
لم يكن يملك جواباً واحداً لأسئلته الكثيرة...
ماذا يقول: ألم يوليه ثقته...؟ ألم يؤمنه على البستان...؟ ألم يمهله موسماً كاملاً...؟ ...ألم...؟ ألم....؟
لا يدري كيف أغرى به الكسل... واستهواه حب الراحة...؟ ليستنيما ضميره... ويدفعاه الى التفريط بأمانته؟!
إن شد مايؤذيه... انه تنكر لسيده... هذا الرجل الكبير الشريف... صاحب اليد البيضاء عليه... فبدلاً من أن يفي له ببعض حقه عليه، فعل ما أبرمه منه وأغاضه...!
ليته قرعه بدلاً عن السوط الواحد عشرة... بل مئة.. حتى يسكن غضبه ويرتاح...!
ولكن... متى كان سيده ممن ينفس عن غيضه، برؤية الآخرين، يتلوون ألماً، وهو يلهب ظهورهم بسوطه...!
لا... لا... لن تغيب قسمات وجهه المشعة عن ذهنك يا عبدالله... لحظة هوى بالسوط عليك... رأيتها بدقة... سرعان ما تقبضت... وكأن الألم البسيط الذي نزل بك، نزل به مضاعفاً...!
...وبعدها لم يفه بكلمة واحدة... بل أطرق، ثم انسحب حالاً...
- يا عبدالله..! يا عبدالله...! ...سمع من يناديه عند بوابة البستان... فأسرع الى هناك... فتح البوابة ليقول:
- هذا أنت يا سالم... خير إن شاء الله؟! ...رد سالم على عجل:
- أرسلني سيدي خلفك لأدعوك اليه..! ...داهمته الكلمات.. أطرق يفكر... يدعوني؟! لأي شيء يدعوني...؟! وعندما رفع رأسه ليستفسر، كان صاحبه قد غادر المكان..
أربكه هذا الإستدعاء بل أخافه...! ...هل سيعاقب ثانية...؟! ...لايتوقع ذلك... بيد أنه ليس أمراً مستحيلاً... انه أساء حفظ أمانته... لم يقم بالعمل الذي عهد به اليه... ولم يتدارك تقصيره ويعتذر قبل فوات الأوان...! أفلا يستحق بعد كل ذلك أن يعاقب...؟! ولكن.. عليه فعلا أن يستعد لتلقي العقوبة... أم أنه طُلب لأمر غير ذلك...؟!
خرج من البستان، أغلق بوابته وهو يقول مع نفسه:
...لا ...لا ...لا يصدق أن سيده يريد عقوبته... لقد عفى عن ما هو أكثر جريرة منه... ألم يعف بالأمس عن نجم بعد أن فجعه بولده الصغير...! ومن ينس تلك الفاجعة المروعة...! يا الهي...!
كان سيده يستقبل ضيوفاً وقتها... وكانت الإستعدادات تجري على عجل لتقديم طعام الغداء... وذهب نجم يستخرج الشواء من التنور... ثم جاء حاملاً السفود راكضاً...
وفجأة فقد توازنه، وتحرر السفود الذي كان يتوهج بالحرارة من يده... وحلت الفاجعة...!!
فقد سقط السفود على رأس الطفل الصغير... فصرخ صرخة أودع فيها آخر رمق له من الحياة...!
ووقف الإمام يلقي نظرة على جسد ولده الصغير، وقد سكنت حركته، ثم دنى من نجم الذي شله الخوف والرعب، وقال:
- أنت حر...! ...ثم أردف، محاولاً إعادة الإطمئنان الى نفسه:
- فأنت لم تتعمد...!!
أصبح على خطوات من بيت الإمام... توقف يسترد أنفاسه، وقد استعاد بعض استقراره النفسي...
لا يدري لماذا هاجمته هواجسه ثانية بعد دخول البيت... ليس هناك ما يدعو لذلك... لم ير أو يسمع ما يحمله على الظن أن هناك عقوبة تنتظره...! كل ما قيل له: أن الإمام ينتظره...!
نقر باب الغرفة بإصبعه نقرتين... بلغة الرد دون إبطاء يدعوه للدخول... كان صوت الإمام عميق النبرات، خاله مشحوناً بالغضب... فخفق قلبه خوفاً، غير أنه دفع الباب ودلف الى الداخل...
خطوة واحدة خطاها داخل الغرفة، جعلته يتحقق من صدق مخاوفه...! فالمشهد الذي طالعه قضى على أي احتمال آخر، يمكن أن يمني نفسه فيه بالنجاة من العقوبة...!
لم يصدق عينيه في البدء... كان الإمام يقف وسط الغرفة وقد نضى قميصه، فبان ظهره عارياً... فيما أمسك بيمناه السوط...!
تسمر عبدالله عند الباب، وقد اشتد خوفه... وبدا كمن أصابه الشلل... فلا هو يتقدم ولا هو يتأخر...! غير أنه تجرأ أخيراً لينظر الى وجه الإمام... فحسب أنه قرأ معنى لم يعرف كنهه... ولكنه ليس غضباً على أية حال...
شعر بجرأة أكبر... أراد أن يعتذر، أن يطلب الصفح... إلا أن الإمام مد يده بالسوط، فتراجع عبدالله... فتداركه الإمام قائلاً بنبرة اعتذار:
- قد كان مني اليك، ما لم يتقدم مني مثله... فدونك السوط واقتص مني...! ...احتبست الكلمات في فم عبدالله، وجاهد ليقول بنبرة مخنوقة:
- يا مولاي...! ...والله... إن ظننت... إلا أنك... تريد عقوبتي... ثم انفجر باكيا، وهو يقول:
- وأنا أستحق العقوبة... فكيف أقتص منك؟!
تقدم الإمام منه أكثر وهو يقول:
- ويحك... اقتص...! ...رد عبدالله بصوت مشحون بالإنفعال:
- معاذ الله..! ...أنت في حل وسعة...!
انفرجت ملامح الإمام عن ابتسامة يطبعها الحياء... قبل أن يقول:
- أما إذا أبيت، فالضيعة صدقة عليك...!!

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة