البث المباشر

المحاضرة

السبت 10 يوليو 2021 - 16:42 بتوقيت طهران
المحاضرة

إذاعة طهران- أدب الإمام علي (ع):


المحاضرة هي مقال اعد للالقاء او ما يمكن تسميته بالكلمة‌ المحفلية، أي ما يلقى في اجتماع خاص أو عام لا يقصد به استثارة الجمهور وحثه على عمل ما، بل توصيل المعرفة اليه من خلال التحدث معه مباشرة بدلاً من الكتابة.
والفارق الفني بينها وبين الخطبة (مضافاً الى ما تقدم) هو: ضمور العنصر العاطفي فيها ثم ضمور اللغة الخطابية (أي محادثة الجمهور بضمير المخاطب) استمرارياً، بمعنى ان الكلمة تحمل عنصراً عاطفياً او لغة خطابية ضئيلين بالقياس الى بروزهما في الخطبة... ويمكننا ملاحظة هذه الخصائص الثلاث: توصيل المعرفة العلمية ضمور العنصرين العاطفي والخطابي، في النص الذي بدأه بقوله: (الحمد لله الذي لبس العز والكبرياء، واختارهما لنفسه دون خلقه، وجعلهما حمىً وحرماً على غيره واصطفاهما لجلاله، وجعل اللعنة على من نازعه فيهما من عباده. ثم اختبر بذلك ملائكته المقربين ليميز المتواضعين منهم من المستكبرين، فقال سبحانه وهو العالم بمضمرات القلوب ومحجوبات الغيوب: «اني خالق بشراً من طين / فاذا سوّيته ونفخت فيه من روحي، فقعوا له ساجدين / فسجد الملائكة كلهم اجمعون / الا ابليس...» اعترضته الحمية فافتخر على آدم بخلقه وتعصب عليه لأصله. فعدو الله امام المتعصبين، وسلف المستكبرين الذي وضع أساس العصبية ونازع الله رداء الجبرية وادرع لباس التعزز، وخلع قناع التذلل...) (٥) هذه المقدمة: تلخص كل شيء من خصائص «الكلمة»... حيث تطبعها سمة البحث أو المقالة التي تعتمد التعريف والاستدلال التقريري والتوكؤ على مصدر، والخلو من المخاطبة والاستثارة، والتقليل من عناصر الصوت والصورة... الخ. فلو قسنا هذه المقدمة‌ مع مقدمة الخطبة التي وقفنا عندها قبل صفحات لوجدنا فارقاً ملحوظاً بينهما فهناك احتشدت المقدمة بعنصر ايقاعي وصوري مكثفين كل التكثيف حتى لا تخلو الجملة الواحدة منهما اما في هذه المقدمة‌ فلا توجد الا صورتان او ثلاث، كما لا يوجد الا جملتان ايقاعيتان او ثلاث..، مضافاً الى خلوها من الصياغات الخطابية‌ وسائر ما يواكبها من ادوات اشرنا اليها... لكن ما يعنينا بعد ذلك هو أن نشير الى أن التعريف والشرح والاستدلال الفكري هو الذي يطبع هذه الكلمة: مشفوعة بومضات خاطفة من الايقاع والصورة، وبخطاب يوجه بين الحين والآخر الى الآخرين...
اذن، لنتابع الكلمة‌ المذكورة: (ألا ترون كيف صغره الله بتكبره ووضعه بترفعه، فجعله في الدنيا مدحوراً، وأعد له في الآخرة سعيراً؟ ولو اراد الله أن يخلق آدم من نور يخطف الابصار ضياؤه ويبهر العقول رواؤه وطيب يأخذ الانفاس عرفه لفعل، ولو فعل لظلت له الاعناق خاضعة ولخفت البلوى فيه على الملائكة، ولكن الله سبحانه يبتلي خلقه ببعض ما يجهلون اصله تمييزاً بالاختبار لهم ونفياً للاستكبار عنهم وابعاداً للخيلاء منهم، فاعتبروا بما كان من فعل الله بابليس اذ احبط عمله الطويل وجهده الجهيد، وكان قد عبد الله ستة آلاف سنة لا يدري امن سني الدنيا ام من سني الآخرة عن كبر ساعة واحدة. فمن ذا بعد ابليس يسلم على الله بمثل معصيته؟ كلا ما كان الله سبحانه ليدخل الجنة بشراً بامر اخرج به منها ملكاً...) نواجه في هذا النص وما قبله- حيث ينطوي على (مقدمة) و(موضوع) جمل من الخصائص التي تطبع «الكلمة».
*******
بناؤها
ان من أهم ما يميز فن التعبير هو خضوعه لتخطيط هندسي تتوازى وتتقاطع خطوطه وفقاً لقواعد السببية والنمو... وقد لحظنا في خطبة‌ سابقة مدى هذا التخطيط المذهل الذي تلاحمت من خلاله العناصر العاطفية والموضوعية والصورية والايقاعية بعضاً مع الآخر وانصبابها في الهيكل الفكري العام للخطبة ... هنا في (الكلمة) نلحظ العمارة الفنية ذاتها من حيث الاحكام والتخطيط الهندسي... ولعل ابرز هذا التخطيط هو ملاحظة (المقدمة) التي استهلت بها الكلمة وبين (الموضوع) الذي تناولته الكلمة، فالموضوع هو سلوك ابليس القائم على عنصر (التكبر) حيث تكفل النص بشرحه مفصلاً كما لحظنا لكن لنتجه الى المقدمة ونلحظ كيف ان المقدمة ‌مهدت فنياً للدخول في هذا الموضوع، فالمقدمات التي تستهل بها الخطب والرسائل تكاد تتماثل في صياغاتها التي تبدأ بالتحميد لله تعالى وبذكر صفاته، لكن في كل (تحميد) خصوصية لا توجد في التحميد الآخر، وهذه الخصوصية تعود الى صلة (التحميد) بـ (الموضوع) الذي يتناوله النص، ففي الكلمة التي نتحدث عنها نجد أن (التحميد) يبدأ بهذا الشكل:
(الحمد لله الذي لبس العز والكبرياء، واختارهما لنفسه دون خلقه، وجعلهما حمى وحرماً على غيره، واصطفاهما لجلاله، وجعل اللعنة على من نازعه فيهما من عباده) الى هنا، فأن القارىء يلحظ أن (التحميد) قد اقترن بالعز والكبرياء - دون أن يقرنه بصفات الله الاخرى- ثم اكد بأن العز والكبرياء قد خص الله بهما ذاته وجعل اللعنة على من ينازعه فيهما... ترى، لماذا بدأ الامام علي (عليه السلام) بهاتين الصفتين، ولماذا قال بأن الله جعل اللعنة على من ينازعه فيهما؟... هنا تكمن خطورة الفن المدهش... لقد استهل (عليه السلام) كلمته بهذا الحمد دون سواه لان الموضوع الذي يستهدف طرحه في هذه الكلمة هو سلوك ابليس، وابليس - كما نعرف جميعاً- هو أول من حاول أن ينسب العز والكبرياء الى نفسه عندما امتنع عن الجسود لآدم، وأول من صب الله عليه اللعنة.
اذن: نتوقع من هذه المقدمة‌ ان ترتبط فنياً بموضوع يتناول ما له صلة بهذا (التحميد) وهذا ما بدأ به النص فعلاً حينما قال بعد هذه المقدمة ما يلي:
(ثم اختبر بذلك ملائكته المقربين ليميز المتواضعين منهم من المستكبرين...) ثم يواصل حديثه عن هذا الجانب الى أن يصل الى ابليس فيعرض لنا سلوكه القائم على التكبر... حيث تدرج من (الملائكة) الى (ابليس) بصفته ينتسب اليهم، وقبل ذلك تدرج من الحديث عن صفتي الله (العز والكبرياء) الى اختبار العنصر الملائكي في هذا الميدان...
اذاً: لحظنا كيف ان (المقدمة) تمت صياغة (التحميد) فيها بنحو (يتجانس) مع الموضوع المطروح في النص، وكيفية الدخول الى (الموضوع) بنحو من التدرج والنمو والسببية التي تشبه نمو النبات وخضوعه لعوامل بيئية مختلفة خلال مراحل نموه...
بعد ذلك، ينبغي أن نلحظ كيف أن الادوات الفنية الاخرى قد ساهمت في تخطيط هذه العمارة، وفي مقدمتها: عنصر (الصورة) التي ختم بها النص السابق، وهي (ما كان الله سبحانه ليدخل الجنة بشراً بامر اخرج به منها ملكاً) هذه الصورة‌ التي سنعرض لها عند حديثنا عن (الصورة التضمينية) في أدب الامام (عليه السلام)، تنتسب الى (التضمين) الذي يعني أن يضمن النص كلامه: آية كريمة او غيرها من الاقتباسات ويصوغها في صورة فنية، حيث ان القرآن الكريم أشار مكرراً الى‌ اخراج ابليس من الجنة بسبب من معصيته (التكبر)...، وهذه الاشارة قد ضمنها الامام (عليه السلام) في صورة فنية مدهشة، لو كانت وحدها قد صدرت عنه لكانت كافية في تلخيص تجربة الحياة جميعاً، ... ان القارىء ليقف ذاهلاً مندهشاً مبهوراً من هذه الصورة التي تلخص له تجربة الانسان من حيث تعامله مع الله تعالى وطبيعة وظيفته التي أوكلها الله تعالى اليه... لنقرأ الصورة من جديد حتى نتحسس خطورة‌ الفن العظيم: (ما كان الله سبحانه ليدخل الجنة بشراً بأمر أخرج به منها ملكاً) (٦)... نحن الآن امام صورة تمت صياغتها لغوياً بنحو من التركيب القائم على التركيز والاقتصاد والمتانة والايحاء المدهش، ... هذه الصورة تقول بما معناه: ان الله تعالى لا يدخل البشر الجنة: بالمعصية التي اخرجت ملكاً - وهو ابليس- منها...، ان ابليس وهو (ملك) قد اخرج من الجنة او حرم منها بسبب معصيته، وحينئذ هل يدخل الله البشر الجنة بسبب من معصيتهم؟ كلا... مع ان ابليس عبد الله بلا معصية سابقة آلافاً من السنين، في حين أن البشر لم يسبق بمثل هذه العبادة. فكيف يدخل الجنة من لم يتعبد سابقاً بأمر خرج به منها ملك متعبد؟... هذه الدلالة صاغها النص في صورة (التضمين) المشار اليها حيث يلخص هذا التضمين سلوك الانسان وما ينبغي أن يختطه عبادياً في غمرة المهمة ‌الموكلة اليه في هذه الحياة...
المهم، أن الصورة‌ المشار اليها ساهمت - وهذا ما نعتزم في هذا الحقل التأكيد عليه- عضوياً في بلورة الموضوع الذي طرحته الكلمة، حيث ان الوصل الفني بين المقدمة والموضوع قد واكبه رسم فني يتواصل ويتلاحم بدوره مع جزئيات الموضوع، فالصورة والايقاع والصياغة اللفظية توظف جميعاً لانارة الموضوع (كما لحظنا في الخطبة) وكما نلحظ الان ذلك في (الكلمة) التي نتحدث عنها، فيما جاءت (الصورة التضمينية) موظفة بشكل فني مثير لانارة الموضوع الذي يتحدث عن ابليس ومعصيته وعلاقة ذلك بالتكبر...
ونكتفي بهذا القدر من توضيح البناء العماري لهذه «الكلمة» حتى لا نتجاوز حجم هذه الدراسة التي تعتزم عرض المستويات الاخرى من ادب الامام (عليه السلام)... وقد عرضنا كلاً من (الخطبة) و(الكلمة)،‌ ونتقدم الآن الى شكل أدبي آخر هو:
*******

(٥) نفس المصدر: ص ۳٥٦، ۳٥۷.
(٦) نفس المصدر: ص ۳٥۸.
*******

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة