إنّ لكلّ شجاع غاية ينحوها وهدف يرمي إليه إمّا قصد تأسيس مملكة وإشادة سلطنة أو دفاع عن وطن أو تخلّص عن ذلّ وأستبعاد أو أكتساب رفعة ووجاهة أو نيل مرتبة سامية وما شاكل ذلك من المقاصد العقلانية وأنبلها المحاماة عن الإعراض والكفاح على الدين والمحاماة عن عظيم من العظماء الروحانّيين كلّ هذه الغايات من مقاصدة الشرف ومناحي المجد والسؤدد وهي مقدرة عند جميع ذوي العقول ومحترمة لدى كافّة النبلاء وأقربها للمحامد وأحراها بالتبجيل والأحترام من كان دفاعه نصرة للحقّ والعدل وتشييداً للدين ومكافحة للأستبداد الممقوت والجور الصارم والمدافعة عن نفس يجب حفظها بكل ما يمكن الوصول إليه (كنفس النبيّ والإمام) المعصوم المفترضة طاعتهما على الخلق أجمعين وجميع هذه الغايات النبيلة.
من مقاصد أبي الفضل العبّاس بن أمير المؤمنين عليّ (ع):
فإنّ غرضه الأقصى الذي ينحوه وهدفه الأبعد الذي يسدّد الرمية إليه هو نصرة الدين وحماية الإمام الحسين (ع) إمام الحقّ والعدل الذي قام يكافح أستبداد ولاة الجور من آل حرب ورعاة النفاق والفجور وماحي الإسلام وماحقي السنّة ومحيي البدعة والأضليل من بني اُميّة وقد صرّح أبو الفضل (ع) ببعض مقاصدة كقوله:
*أذبّ عن دين النبيّ أحمد*
وكقوله:
إنّي اُحامي أبداً عن ديني
وعن إمام صادق اليقين
وكقوله:
*نفسي لنفس السيّد الطهر وقا*
صرّحت كلّ هذه الأشعار التي لا شبهة أنّه قائلها بأنّ أقصى غاياته المدافعة عن إمامه الحسين (ع) ونصرة دين الله الذي قهرته سلطة بني اُمّية وأذله أستبدادهم الجبّار ومحقته أثرتهم الفاجرة.
شجاعة العبّاس الأكبر:
أمّا شجاعته (ع) فهي المثل الأعلى ووصفها الأكمل ونعتها الأتمّ وهي عظيمة الأثر في صفوف أهل الكوفة شديدة النكاية فيهم وقد تفنّن الشعراء في نعته بالشجاعة فنوناً.
حضوره صفّين:
قد شهد قبل كربلاء صفّين وفي بعض الكتب الفارسيّة أنّه كان محارباً ويشهد له ما ذكره الخطيب الخوارزميّ الحنفيّ في كتاب المناقب أنّ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (ع) ليس ثياب أبنه العبّاس في بعض أيّام صفّين لمّا برز لقتال كريب فارس اهل الشام وحيث أنّ هذه القصّة تشتبه بقصّة العبّاس بن ربيعة بن الحارث أبن عبد المطلب لزمنا نقل القصّتين ليرتفع الإشكال ويزول الشك فإنّه ذكروهما معاً لفظه: ثمّ خرج من عسكر معاوية كريب بن أبرهة من آل ذي يزن وكان مهيباً قويّاً يأخذ الدرهم فيغمره بإبهامه فتذب كتابته، فقال له معاوية: إنّ عليّاً يبرز بنفسه وكلّ أحد لا يتجاسر على مبارزته وقتاله، فقال كريب: أنا أبرز إليه فخرج إلى صفّ أهل العراق ونادى: ليبرز إليّ عليّ، فبرز إليه مرتفع بن وضّاح الزبيديّ فسأله: من أنت؟ فعرفه بنفسه فقال: كفؤ كريم ثمّ تكافحا فسبقه كريب بالضربة فقتله ونادى: ليبرز إليّ اشجعكم أو عليّ، فبرز إليه شرحبيل بن بكر وقال لكريب: ياشقيّ! ألا تفكّر في لقاء الله ورسوله يوم الحساب من سفك الدم الحرام؟ فقال كريب، إنّ صاحب الباطل من آوى قتله عثمان وهو صاحبكم ثمّ تكافحا مليّاً فقتله كريب، ثمّ برز إليه الحارث بن اللجلاج الشيبانيّ وكان زاهداً صوّاماً قوّاماً وهو يقول:
هذا عليّ والهدى حّقاً معه
نحن نصرناه على من نازعه
ثمّ تكافحاً فقتله كريب فدعا عليّ (ع) أبنه العبّاس وكان تامّاً كاملاً من الرجال فإمره أن ينزل عن فرسه وينزع ثيابه ففعل فلبس عليّ (ع) ثيابه وركب فرسه ولبس أبنه العبّاس (ع) ثيابه وركب فرسه لئلاّ يجبن كريب عن مبارزته، فلمّا همّ عليّ (ع) بذلك جاء عبد الله بن عدي الحارثيّ وقال: ياأمير المؤمنين! بحقّ إمامتك أئذن لي في مبارزته فإن قتلته وإلاّ قتلت شهيداً بين يديك، فإذن له عليّ (ع) فتقدّم إلى كريب وهو يقول:
هذا عليّ والهدى يقوده
من خير عيدان قريش عوده
لا يسأم الدهر ولا يروده
وعلمه معاجز وجوده
فتصاولا ساعة ثمّ صرعه كريب ثمّ برز إليه عليّ (ع) متنكّراً وحذّره الله وسخطه فقال كريب: أترى سيفي هذا؟ قد قتلت به كثيراً مثلك، ثمّ حمل على عليّ (ع) بسيفه فأتّقاه بجحفته ثمّ ضربه عليّ (ع) على رأسه فشقّه حتّى سقط نصفين وأنشأ عليّ (ع) يقول:
النفس بالنفس والجروح قصاص
ليس للقرن بالضراب خلاص
إلى آخر القصّة، وفيها يذكر أنّ أمير المؤمنين عليّاً أمر أبنه محمّد بن الحنفيّة بملازمة مصرع كريب لأجل منازلة من يثور طالباً بدمه وذكر أنّ محمّداً قتل في هذا الموقف سبعة أبطال من الثائرين يطلبون بدم كريب، وقد ذكرنا القصّة بطولها في كتاب ((الميزان الراجح)).
ثّم ذكر قصّة العبّاس بن ربيعة بما لفظه (1) قال: برز اليوم التاسع عشر من حرب صفّين من أصحاب معاوية عثمان بن وائل الحميريّ وسمّاه المسعوديّ وغيره عرار بن أدهم وكان يعد بمائة فارس وله أخ يسمّى حمزة يعدّهما معاوية للشدائد فجعل عثمان يلعب برمحه وسيفه والعبّاس بن الحارث (2): بن عبد المطلب ينظر آليه من ناحية مع سليمان بن صرد الخزاعي فقال له العبّاس(3): اُبرز إليه وقد نهاني أمير المؤمنين (ع) وفي نفسي أنّي أقتله فبرز إليه العبّاس وهو يقول:
بطل إذا غشي الحروب بنفسه
حصد الرؤوس كحصد زرع مثمر
فتكافحا مليّاً فلم يظفر أحدهما بصحابه، فقال سليمان للعبّاس: ألا تجد فرصة فقال فيه شجاعة ثمّ أنثنى عليه فضربه فرمى رأسه ووقف مكانه فبرز إليه أخوه حمزة فأرسل اليه عليّ (ع) ونهاه عن مبارزته وقال له: إنزع ثيابك وناولني سلاحك وقف مكاني وأنا أخرج إليه فنتكّر عليّ (ع) وخرج إلى حمزة فظنّ حمزة أنّه العبّاس الذي قتل أخاه فضربه عليّ (ع) فقطع أبطه وكتفه ونصف وجهه ورأسه فعجب اليمانّيون وهابوا العبّاس وبرز إلى عليّ (ع) عمرو بن عبس الجمحيّ وكان شجاعاً فجعل يلعب برمحه وسيفه، فقال عليّ (ع) هلمّ للمكافحة فليس هذا وقت للعب، فحمل عمرو على عليّ (ع) حملة منكرة فاتّقاه عليّ (ع) بجحفته ثمّ ضربه عليّ (ع) على وسطه فأبان نصفه وبقي نصفه على فرسه، فقال عمرو بن العاص لمعاوية: ما هذه إلاّ ضربة عليّ (ع) فكذّبه معاوية قال: قل للخيل تحمل عليه فإن ثبت مكانه فهو عليّ فحملوا عليه فثبت لهم ولم يتزعزع وجعل يقتل فيهم حتّى قتل منهم ثلاثة وثلاثين رجلاً ألخ.
وهذا صريح أنّ العبّاس الاكبر كان فارساً بصفّين كامل الأهبة والعدّة يقف في صفّ المجالدين فيستعير أمير المؤمنين (ع) آلته ولباسه فلا يفرّق بينهما وقد صرّح الكربلائيّ في معالي السبطين بأنّه كان محارباً(4) وقال: قال الطريحيّ: إنّ العباّس (ع) كان مع أبيه أمير المؤمنين (ع) في الحروب والغزات ويحارب شجعان العرب ويجالدهم كالأسد الضاري حتّى يجدّلهم صرعى، وفي يوم صفّين كان (ع) عوناً وعضداً لأخيه الحسين (ع) وإنّ الحسين (ع) في فتح الفرات وأخذ الماء من أصحاب معاوية وهزم أبا الأعور عن الماء.
ثمّ قال: قال الحاج شيخ محمّد باقر البرجنديّ القائنيّ في كتابه المسمىّ الكبريت الاحمر: قال بعض من يوثق به بأنّ يوماً من أيّام صفّين خرج شابّ من عسكر أمير المؤمنين (ع) وعليه لثام وقد ظهر منه من آثار الشجاعة والهيبة والسطوة بحيث أنّ أهل الشام قد تقاعدوا عن حربه وجلسوا ينظرون إليه وغلب عليهم الخوف والخشية فما برز إليه أحد، فدعا معاوية برجل من أصحابه يقال له أبن شعثاء وكان يعدّ بعشرة آلاف فارس فقال له معاوية: اُخرج إلى هذا الشابّ فبارزه، فقال: ياأمير المؤمنين! إنّ الناس يعدّونني بعشرة آلاف فارس فكيف تأمرني بمبارزة هذ الفتى؟ فقال له: إفعل، فبعث إليه بأحد أولاده فقتله الشابّ ثمّ بعث إليه بآخر فقتله الشابّ حتّى بعث جميع أولاده فقتلهم الشابّ فعند ذلك خرج أبن شعثاء وهو يقول: أيّها الشابّ ! قتلت جميع اولادي والله لأثكلنّك اباك وأمّك ثمّ حمل اللعين وحمل عليه الشابّ فدارت بينهما ضربات فضربه الشابّ ضربة قدّه نصفين فألحقه بأولاده فعجب الحاضرون من شجاعته عند ذلك صاح أمير المؤمنين (ع) ودعاه وقال: إرجع يابنّي لئلاّ تصيبك عيون الأعداء، فرجع وتقدّم أمير المؤمنين (ع) وأرخى اللثام عنه وقبّله بين عينيه فنظروا إليه فإذا هو قمر بني هاشم العبّاس بن أمير المؤمنين.
ويكفي لإثبات شجاعته (ع) ما كان منه يوم كربلاء: أمّا عدد من قتلهم فمختلف فيه: ففخر الدين الطريحيّ (رحمه الله) ومن وافقه من العلماء رضوان الله عليهم فيقولون قتل ثمانين بطلاً، وصاحب الكبريت الأحمر وصاحب أسرار الشهادة وصاحب نور العين الشافعيّ فيقولون: ثمانمائة فارس، والجمع بين القولين سهل بحمل الثمانين على المشاهير من الأبطال وباقي العدد على ما دونهم، وبين هذين القولين أقول بالزياردة والنقصان وأنا أذكر القولين وأترك ما عداهما.
قال فخر الدين الطريحيّ (رحمه الله) في المنتخب(5): روي أنّ العبّاس بن عليّ (ع) كان حامل لواء أخيه الحسين (ع) فلمّا رأى جمع عسكر الحسين (ع) قتلوا وإخوته وبني عمّه بكى وإلى لقاء ربّه أشتاق وحنّ فحمل الراية وجاء نحوا أخيه الحسين (ع) وقال: يا أخي! هل من رخصة؟ فبكى الحسين (ع) بكاء شديداً حتّى أبتلّت لحيته بالدموع ثمّ قال: ياأخيّ كنت العلامة من عسكري ومجمع عددي فإذا أنت قًتلت يؤلّ جمعنا إلى الشتات وعمارتنا تنبعث إلى الخراب، فقال العبّاس (ع): فداك روح أخيك ياسيّدي قد ضاق صدري من حياة الدنيا واُريد أن آخذ الثار من هؤلاء المنافقين، فقال الحسين (ع) إذا غدوت إلى الجهاد فأطلب لهؤلاء الأطفال قليلاً من الماء.
فلمّا أجاز الحسين (ع) أخاه العبّاس برز كالجبل العظيم وقلبه كالطود الجسيم لأنّه كان فارساً هماماً وبطلاً ضرغاماً وكان جسوراً على الطعن والضرب في ميدان الكفاح والحرب، فلمّا توسّط الميدان وقف وقال: ياعمر بن سعد! هذا الحسين ابن بنت رسول الله (ص) يقول لكم قتلتم أصحابه وإخوته وبني عمّه وبقي وحيداً فريداً مع أولاده وعياله وهم عطاشى قد أحرق الظمأ قلوبهم فأسقوه شربة من الماء فإنّ أطفاله وعياله وصلوا إلى الهلاك وهو يقول لكم: دعوني أذهب إلى طرف الروم والهند واُخلّي لكم الحجاز والعراق وأشرط لكم أنّي غداً في القيامة لأخاصمكم عند الله حتّى يفعل الله بكم ما يريد.
فلمّا أوصل إليهم العبّاس (ع) الكلام عن أخيه الحسين (ع) فمنهم من سكت ولم يرد جواباً، ومنهم من جعل يبكي، فخرج الشمر وشبث بن ربعيّ لعنهما الله فجاء نحو العبّاس (ع) وقالا: يابن أبي تراب! لو كان وجه الأرض ماء وهو تحت أيدينا ما سقيناكم منه قطرة إلاّ أنت تدخلوا في بيعة يزيد، فتبسّم العبّاس ومضى إلى أخيه الحسين (ع) وعرض عليه ما قالوا فطأطأ رأسه إلى الارض وبكى حتّى بلّ أزياقه فسمع الحسين (ع) الأطفال وهم ينادون: العطش العطش.
فلمّا سمع العبّاس (ع) رمى بطرفه إلى السماء وقال: إلهي وسيّدي! اُريد أن أعتدّ بعدّتي وأملأ لهؤلاء الأطفال قربة من الماء، فركب فرسه وأخذ رمحه والقربة في كتفه وكان قد جعل عمر بن سعد لعنه الله أربعة آلاف خارجيّ موكّلين على الماء لا يدعون أحداً من أصحاب الحسين (ع) يشرب منه، فلمّا رأوا العبّاس (ع) قاصداً إلى الفرات أحاطوا به من كلّ جانب ومكان، فقال لهم: ياقوم! أنتم كفرة أم مسلمون؟ هل يجوز في مذهبكم ودينكم أن تمنعوا الحسين وعياله شرب الماء والكلاب والخنازير يشربون منه والحسين (ع) مع أطفاله وأهل بيته يموتون من العطش أما تذكرون عطش القيامة؟
فلمّا سمعوا كلام العبّاس (ع) وقف خمسائمة رجل فرموه بالنبال والسهام فحمل عليهم فتفرّقوا هاربين كما يتفرّق عن الذئب الغنم وغاص في أوساطهم حتّى قتل منهم على ما نقل ثمانين فارساً فهمز فرسه إلى الماء وأراد أن يشرب فذكر عطش الحسين (ع) وعياله وأطفاله فرمى الماء من يده وقال: والله لا أشربه وأخي الحسين (ع) وعياله وأطفاله عطاشى، لا كان ذلك أبداً، ثمّ ملأ القربة وحملها على كتفه الأيمن وهمز فرسه وأراد أن يوصل الماء إلى الخيمة فأجتمع عليه القوم فحمل عليهم فتفرّقوا عنه وسار نحو الخيمة فقطعوا عليه الطريق فحارهم محاربة عظيمة فصادفه نوفل الأزرق فضربه على يمنيه فبراها، فحمل العبّاس (ع) القربة على كتفه الأيسر فضربه نوفل على كتفه الأيسر فقطعها من الزند، فحمل القربة بأسنانه فجاء سهم فأصاب القربة فأنفرت واُريق الماء، ثمّ جاء سهم آخر فوقع في صدره فقلب عن فرسه إلى الرض فصاح بأخيه الحسين (ع): أدركني، فساق الريح كلامه إلى الخيمة فلمّا سمع كلامه أتاه فرآه طريحاً فصاح: وا أخاه! وا عبّساه! وا قرّة عيناه! وا قلّة ناصراه! ثمّ بكى بكاء شديداً وحمل العبّاس (ع) إلى الخيمة، إنتهى.
وهذا حديث كتبناه كما وجدناه وهو يخالف المشهور من وجوه:
أحدهما: كون الذي قطع يديه نوف الأزرق والمشهور عند المؤرخين أنّ الذي قطع يديه زيد بن رقاد الجنبيّ من مذحج وحكيم بن الطفيل السنبسيّ من طيّ.
ثانيهما: أنّ الحسين (ع) حمله إلى الخيمة يعني خيمة الشهداء والمشهور أنّه بقي في مكانه.
ثالثهما: إنّ الحسين (ع) تنازل لأهل الكوفة عن مخاصمتهم عند الله بدل سماحهم له بالأنصراف حيث شاء وهذا لا يصحّ بعد أن قتل أصحابه وأهل بيته ولكن الطريحيّ فقيه معتمد وهو أعرف بمسلكه وعلينا نحن بيان العلل المانعة.
وأمّا القائلون بأنّ العبّاس (ع) قتل ثمانمائة فارس فنصّ الدربنديّ في أسرار الشهادة(6): وفي رواية عبد الله الأهوازيّ عن جدّه قال: قال إسحاق بن حيوة لعنه الله لمّا أقبل العبّاس (ع) بالجود فثرنا عليه كالجراد الطائر فصيّرنا جلده كالقنفذ.
قال: فحمل عليهم العبّاس فتفرّقوا عنه هاربين كما يتفرّق عن الذئب الغنم وغاص في أوساطهم فقتل على ما نقل ثمانمائة فارس ألخ والحديث مطوّل.
ترجيح قول الطريحيّ (رحمه الله):
هذا أمر لا يحتاج إلى البيان في أختيار أيّ الأقوال أقرب إلى المعقوليّة وإن كان لا منافاة بينهما لما ذكرنا ولكنّي أجد في مدرك التفكير أنّ العبّاس (ع) لا يجسر كلّ أحد على الدنّو منه لشهرته بالشجاعة فلا يدنوا منه إلاّ الجريء المقدام ولا أجد من تهون عليه نفسه إلاّ عدد الثمانين فما دون وقد سمعنا من بعض المطّلعين على سبيل المذاكرة أنّ الأشتر النخعيّ يوم صفّين كان يقتل العدد الذي يقتله أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (ع) عرف ذلك من تكبيره لأنه لم يقتل بطلاً إلاّ كبّر فيعدّ الأشتر التكبير فيجد ما قتله هو بعدد ذلك التكبير والسرّ في هذا هو ما ذكرنا من أنّ المقدم على أمير المؤمنين عليّ (ع) أقلّ ممّن يقدم على ألأشتر، وكان الناس يوصي بعضهم بعضاً بعدم مبارزته.
فقد قال معاوية بن أبي سفيان لحريث مولاه وكان فارس أهل الشام: أتّق عليّاً وضح رمحك حيث شئت وقال لعمرو بن العاص وقد أشار عليه بمبارزة أمير المؤمنين (ع) ياعمرو! إنّما أردت قتلي لتصفو لك الشام، أما علمت أنّ أبن أبي طالب ما بارزه أحد إلاّ وسقى الأرض من دمه وكان عبيد الله بن عمر بن الخطّاب من أشجع العرب مع معاوية يوم صفّين دعا محمّد بن الحنفيّة إلى المبارزة فأجابه محمّد ونهاه أمير المؤمنين (ع) وقال: أنا أبرز إليه، فلمّا رآه أبن عمر مقبلاً ولّى منصرفاً وقال: لا حاجة لي في مبارزتك، القصّة بطولها.
فالشجاعة العبّاسية فرع الشجاعة العلويّة قدّت منها قدّاً وهذا الشبل من ذاك الأسد قد قيل فيه:
بطل تورّث من أبيه شجاعة
فيها اُنوف ذوي الظلاه ترغم
وكان أبو الفضل العبّاس (ع) يوم كربلاء إذا أستحلم أحد من أنصار أخيه الحسين (ع) شدّ على القوم وأستنقذه وليست المحاماة عن الأصحاب وأستنقاذ من أحاطت به الجيوش يوم كربلاء إلاّ له ولأخيه الحسين (ع) وهو حامي الكلّ، نعم ذكر المؤرّخون ومنهم أبو جعفر الطبريّ في التاريخ(7)قال : فأمّا الصيداويّ عمر بن خالد وجابر بن الحارث السلمانيّ وسعد مولى عمر بن خالد ومجمع بن عبد الله العائذيّ فإنهم قاتلوا في أوّل القتال فشدّوا مقدّمين بأسيافهم على الناس فلمّا وغلوا عطف عليهم الناس فأخذوا يحوزونهم وقطعوهم من أصحابهم غير بعيد فشدّ عليهم العبّاس بن عليّ فأستنقذهم فجاؤوا وقد جرحوا فلمّا دنا منهم عدوّهم شدّوا بأسيافهم فقاتلوا في أوّل الأمر قتلوا في مكان واحد، إنتهى.
للمؤلّلف:
أفديك ياقمر العشيرة منجداً
للواقعين بشدّة الأهوال
ما زلت تنجد في الحروب من أغتدى
غرض المنيّة يوم كلّ نزال
أنجدت صبحك ضارباً ثبج العدى
في حدّ عضب لامع كزلال
وتركت جند المارقين جزائراً
للوحش في يزنيك العسّال
فرّقت جمع بني الخنا فتفرّقوا
كالشاء عند تقحّم الريبال
أنقذت صحبك والمنيّة أحدقت
فيهم بيوم مفعم الأهوال
لكن رأوا رفض الحياة غنيمة
فأستقدموا شدّاً بلا إمهال
علماً بانّ الفوز بعد فراقها
بنعيم جنّات نفيس غالي
وقد أكثر الشعراء من نعت العبّاس الأكبر (ع) بالشجاعة ويأتي في تأبينه ذكر ذلك ومنه قول بعضهم:
هو العبّاس ليث بني نزار
ومن قد كان للأجي عصاما
هزبر أغلب تخذ أشتباك الر
ماح بحومة الهيجاء أجاما
فمدّت فوقه العقبان ظلاً
ليقريها جسومهموا طعاما
أبيّ عند مسّ الضيم يمضي
بعزم يقطع العضب الحساما
مقتبس من كتاب (بطل العلقمي) للعلامة الشيخ عبدالواحد المظفر
1ـ المناقب للخوارزميّ: ص149.
2ـ العبّاس بن ربيعة بن الحارث ففي النسخة سقط.
3ـ في النسخة سقط ولعلّها كما ذكر المؤرّخون أنّه دعاه إلى البراز فقال: اُبرز وقد نهاني عليّ (ع).
4ـ معالي السبطين 1/267.
5ـ منتخب الطريحيّ 1/ 27 مجلس 4.
6ـ أسرار الشهادة: ص321.
7ـ تاريخ الطبري 6/255.