هذا في المشهد العام. أمّا على صعيد النقاشات الفكرية والسياسية العمومية الراهنة في الصومال، فيجري تداول سؤال اللّغة العربيّة، وتحديد مكانتها داخل الهويّات اللغوية في البلد.
ولا تكمن أهمية النقاش حول العربية في الصومال في كون العربية اللغة الرسمية الثانية بعد اللغة الصومالية، كما تنصّ الدساتير الصوماليّة المختلفة؛ بل كذلك بصلة العربية الوثيقة بالهويّة الثقافية والدينية لدى الصوماليين، كما في باقي المجتمعات المسلمة غير العربية.
ويمكن القول ابتداءً؛ إنّ العربية تختلف عن اللغات الأجنبية الأخرى؛ بسبب خصوصيتها في وجدان الصوماليين، بصفتها اللغة التي تعبّر عن الهوية الثقافية والحضارية لديهم، فالعربيّة لغة القرآن الكريم الذي يشكّل أحد أهمّ عناصر نشرها وتمدّدها، فضلاً عن التفاعل التاريخي بين ضفتَي البحر الأحمر، وخصوصاً في المدن الساحليّة في القرن الأفريقي، وبين الجزيرة العربيّة، وهو أمر استمرّ بقوّة حتى وصول لحظة الدول الحديثة، وبروز القومية اللغوية التي مهدت أرضية عدائية للغات الأجنبية، بما فيها اللغة العربية.
تبدأ اللغة العربيّة بالمدارس القرآنيّة، أو ما تسمّى عند الصوماليين "مدارس الدكسي"، وهو أولى مراحل التعليم، ويتعلّم الطفل حروف الهجاء العربيّة قبل أن يتعلّم الألفبائيّة الصوماليّة اللاتينيّة، ثم يتدرّج في حفظ القرآن الكريم، وتُعدّ مدرسة الدكسي التقليدية أقدم المؤسسات التعليمية والتربوية التي عرفتها الصومال.
وظلّ الصوماليون يستخدمون اللغة العربية كوسيلة للمخاطبة والمراسلة والمعاملات التجارية وتوثيق العهود حتى إقرار التدوين الرسمي للأبجدية الصومالية العام 1973، بل ويرى بعض الباحثين أنّ العربية كانت لغة الثقافة والدين والعلم، بينما الصومالية كانت لغة التخاطب اليومي، لكنّ ذلك تأثّر بدخول الاستعمار وانتشار المدارس الإيطالية والبريطانية، ودخول التعليم الحديث، ولاحقاً بتدوين اللغة الصومالية بشكل رسميّ.
وبانهيار النظام الرسمي في الصومال؛ اختفى أيّ اهتمام بالتخطيط اللغوي في البلاد، وقد أزّم المشهد صعود نجم الوهابية، إلى درجة باتت اللغة العربية مرتبطة في أذهان الصوماليين بالخطاب السلفي الوهابي، والجماعات المسلّحة المتشدّدة التي تسخدم العربية في خطاباتها الرسمية؛ حيث أعلنت "حركة الشباب"، مثلاً، مؤخّراً، فرض التعريب القسري على المناطق التي تخضع لسيطرتها.
على المستويات الاجتماعيّة؛ باتت فرص العمل ترتبط باللغة الإنجليزيّة، كشرط أساسيّ في المؤسسات الحكوميّة وغير الحكوميّة، كما غدت اللّغة الإنجليزيّة تهيمن على المناهج التعليميّة في البلاد، في وسط انعدام حضور اللّغة العربيّة في المناهج التعليميّة، باستثناء مادّة التربية الدينيّة التي يتمّ تدريسها باللّغة العربيّة منذ السنة الأولى الابتدائيّة.
وفيما يخصّ البند الدستوري عن اللغة، يرى الباحث الصومالي المتخصّص باللّسانيات اللغويّة عبد الولي عمر؛ أنّه لا يوجد اتّساق بين الواقع العمليّ وبين السياسة اللغويّة المنصوصة في الدستور الفدراليّ.
ثقافياً؛ يتجلّى ضعف العربية في الصومال في معارض الكتب المقامة في المدن الصوماليّة، والغياب شبه الكامل للكتب العربيّة، عدا الدينيّة منها، لكنّ معرض "هرجيسا" الدولي للكتاب لهذا العام، كان لديه تجربة مختلفة بهذا الصدد؛ حيث استضاف بلداً عربياً كضيف شرف، للمرّة الأولى في تاريخه.
وقد اختار المعرض، الذي يعدّ الحدث الثقافي الأكبر في شرق أفريقيا، مصر كضيف شرف في دورته الأخيرة، رغم أنَّ الجمهور الحاضر كان معظمه من الصوماليّين. ولاحظ زوّار المعرض شيئاً غريباً على صعيد اللّغة المستخدمة أثناء فعاليات المعرض؛ حيث كانت اللغة الإنجليزية الأكثر استخداماً في ندوات المعرض، كما كان لافتاً غياب أيّة فعالية باللّغة العربيّة، كما لم تحضر أيّة دار نشر عربية؛ مع أنّ البلد الضيف كان عربياً.
إن الشعب الصومالي العزيز والمثقّف والواعي لا بدّ وأن يواجه كلّ محاولات حصاره وكسر إرادته وممارسة القطيعة عن تاريخه وتراثه، ولا بدّ لشمسه من أن تشرق من جديد، فهو شعب حرّ يرفض كلّ مستعمر وكلّ غريب وكلّ متآمر عليه من الدّاخل أو الخارج.
موقع بينات