وبالطبع فإن هذه الطريقة لم تقتصر على تدوين ما عاصره المؤرخون، بل صارت حالة عامة في كتابة التاريخ.
وليس غريباً أن تستحوذ الشخصية التاريخية على عقل المؤرخين، فعلم التاريخ نشأ أصلاً عندما شرع مدوّنو الحديث بالتحقيق من الرواة وبكتابة السيرة النبوية، لذا كان من الصعب استخراج التاريخ العام للمجتمع من خلال المدونات التاريخية تلك.
وكانت أوصاف المدن وتاريخها ترد بشكل مفصل في كتب الرحالة أكثر من كتب المؤرخين، فمعجم البلدان لياقوت الحموي يضع أمامنا تفصيلات ومواصفات مهمة، ولكنها في الوقت نفسه مرويات تفتقر إلى الدقة العلمية، وابن بطوطة يضع أمامنا الكثير من المظاهر التي لا نجدها عند كبار المؤرخين، وحتّى عند العلماء المتأخرين أمثال ابن عساكر، فإن وصف الأماكن يغلب على وصف الحياة العامة.
المناهج التي سادت في زمن ابن عساكر تطورت بشكل كبير في نهاية العصر المملوكي وخلال العهد العثماني لتصبح سيراً شخصية، نستطيع عبرها رصد مواقف عامة وأحداث متفرقة. ولكن هؤلاء المدونين لم يفقدوا اهتمامهم بالأشخاص، فنرى بدير الحلاق مثلاً يكتب عن ولاة دمشق وأفعالهم ومواقف الناس منهم، وميخائيل الدمشقي يسير على المنوال نفسه وكانوا يرون ما حولهم من أشكال اجتماعية شأناً عادياً، مما جعل مذكرات الرحالة الأجانب في النهاية تقدم وجهة نظر الآخرين تجاه منطقتنا، وما يقولونه عن دمشق مثلاً يعبر أولاً وأخيراً عن شكل اجتماعي كان متمايزاً عن الحالة الأوروبية عموماً.
*******
الفارس دارفيو فرنسي الأصل، قرر بعد وفاة والده العام ۱٦٥۰م الذهاب إلى الشرق لمزاولة التجارة، فزار دمشق عام ۱٦٦۰م لكنه لم يستطع البقاء فيها طويلاً بسبب موت والدته، وخلال الفترة القصيرة التي قضاها في دمشق سجّل بعض الملاحظات كالتالي:
أولاً: قدّم وصفاً للجامع الأموي وأبدى إعجابه الشديد بالفسيفساء التي تغطي جدرانه، وذكر أن الدخول إليه يتم من اثني عشر باباً جميلاً مكسوّة بالنحاس المنقوش. وأهم ما لفت نظره التالي: «ويكنّ المسلمون لهذا الجامع احتراماً لدرجة أنهم يخلعون نعالهم قبل دخول الصحن ويمنعون النصارى والأجانب من دخوله».
ثانياً: تحدث عن البيوت الدمشقية فوصفها بأنها صغيرة من الخارج لكنها كبيرة من الداخل، وقال عن المنزل الدمشقي: «ويندر أن تجد هنا منزلاً من دون منهل يعمل على تزيينه وتوفير رفاهيته». وأشار إلى أن جدران المنازل مزيّنة برسوم فيها الكثير من الذهب واللازورد وقال: «يحب سكان دمشق أن يظهروا بلباس لائق وأن يعيشوا برفاهية، وأن يقتنوا الأثاث الفاخر، وهم يحبون حريتهم، إنهم رعايا السلطان وليسوا بعبيد لأحد». وهذه الملاحظة لا نسمعها ممّن كتبوا عن تاريخ المدينة من أهالي دمشق، فبدير الحلاق كان لا يرصد سوى الغلاء والأحداث التي تعبّر عن معاناة الناس.
ثالثاً: قام الفارس دارفيو بجولة في ضواحي دمشق وسجل عن مدينة جوبر لاحتوائها على كنيس يهودي، وكتب وصفاً لصيدنايا وكنيستها الشهيرة، وربط معظم الأوضاع بأحداث وردت في المرويات اليهودية، أي أن نظرته إلى دمشق كانت خاضعة لثقافة محددة معينة.
*******
رحالة آخر فرنسي هو جان تيفينو زار دمشق العام ۱٦٦٤م، وأهم ما لفت نظره فيها المقاهي التي يبدو أنها كانت منتشرة على سور دمشق وهو يسميها ضواحي المدينة. يصف مقهى السنانية فيقول: إنه يحتوي عدداً كبيراً من النوافير الدافقة في بحرته الكبيرة، ويقارنه بمقهى الدرويشية الذي كان يحتوي جدولاً وأشجاراً كبيرة. وهذان المقهيان زالا من الوجود اليوم، وهما كانا حسب وصف الرحالة مجاورين لجامعي السنانية والدرويشية اللذين لا يبعدان عن بعضهما سوى أمتار قليلة. ويتحدث عن قهوة بين النهرين التي كانت تقع في منطقة المرج حيث يتفرع بردى إلى فرعين بينهما جزيرة. ويصفها جان تيفينو بأنها «مكسوة بالزهور والنباتات الأخرى... إن هذه الخضرة والألوان المرقّشة بالإضافة إلى أريج الأزاهير العديدة تضفي الكثير من البهجة على تلك المشاهد... نعم فإنها حَرِية بتعزيز الإمتاع الذي تشعر به في أي مكان يتصف أصلاً بالجمال».
وهناك رحالة انكليزي يصف هذا المقهى أيضاً في القرن السابع عشر، ويذكر أيضاً أنه يحتوي قسماً للصيف وآخر للشتاء، كما يصف الرواد بأنهم «يجسلون على الدواوين مبتهجين بهذا المكان الممتع، فليس هناك ما يستحوذ على مشاعره بكل هذا السرور كالخضرة والمياه».
إن المشاهدات السابقة هي نوع من إتاحة المجال لرأي آخر ومختلف حول مدينة دمشق، في فترة كانت تعاني من غياب عام لأجهزة الدولة، إضافة لوجود تذمّر من الوضع العام، فالرحالة الأجانب مهما كانت بغيتهم في وصف المدينة، يقدّمون لنا مادة مهمة للدراسة والبحث والقراءة.
*******
المصدر: موقع www.imamreza.net.