من البين أن الامام المهدي (عليه السلام) ينفرد بغيبته المعروفة أي بعدم حضوره، مما يترتب على ذلك عدم صدوره عن نتاج تفرضه المقابلة، أو الاجتماع، أو متطلبات التحرك العبادي والسياسي، خلا ما هو ضروري من الأحكام، او التوصيات الخاصة، او العامة التي تتم من خلال سفرائه الأربعة، فيما توشحها لغة العلم... لذلك، لا نتوقع الظفر بنصوص عامة بذلك النحو الذي يؤثر عن سائر المعصومين (عليهم السلام)... لكن نجد ان هناك نصوصاً تنتسب الى فني (الزيارة) و(الدعاء) فيما قلنا ان هذين الشكلين الأدبيين يختصان بالشخصيات المشرعة فحسب، حيث يذكر المؤرخون جملة من الأدعية او الزيارات التي تنسب الى الامام المهدي (عليه السلام)...
من ذلك: ما ينقله المؤرخون من (دعاء) يرتبط بتمجيد المعصومين (عليهم السلام)، بضمنه التمجيد المرتبط بشخصية الامام (عليه السلام) ذاته... وقد استهل هذا الدعاء بتمجيد شخصية النبي (صلى الله عليه وآله) على هذا النحو:
«اللهم، صل على محمد سيد المرسلين، وخاتم النبيين، وحجة رب العالمين: المنتجب في الميثاق، المصطفى في الظلال، المطهر من كل آفة، البريء من كل عيب، المؤمل للنجاة، المرتجى للشفاعة، المفوض اليه دين الله، اللهم شرف بنيانه، وعظم برهانه، وأفلج حجته، وارفع درجته، وأضىء نوره، وبيض وجهه، وأعطه الفضل والفضيلة، والمنزلة والوسيلة، والدرجة الرفيعة، وابعثه مقاماً محموداً، يغبطه به الأولون والآخرون...» (۱)...
فالملاحظ في هذا القسم من النص التشريعي، أن صياغته تتم وفق سياقات خاصة، طالما اشرنا اليها عند حديثنا عن (أدب التشريع الاسلامي)... من أن المشرع الاسلامي لا يعنى بالصياغة الا بقدر ما تستهدفه من تقرير الحقائق العبادية، وهي حقائق تتم صياغتها حيناً بلغة الفن، وحيناً بلغة العلم، وحيناً بالتأرجح بين لغة العلم والفن، حتى أن الشكل التعبيري الواحد (مثل الدعاء او الزيارة او الحديث) يأخذ صياغات متفاوتة،... فبعض الادعية مثلاً تشحن بعناصر ايقاعية وصورية مكثفة، وبعضها بنسبة أقل، وبعضها لا اثر للايقاع وللصورة فيه... والمهم، ان النص المتقدم ينتسب الى صياغة تغلب عليها لغة العلم، موشحة بشيء من لغة الفن حيث يرد (الايقاع) عابراً في بعض عباراتها، كما ترد (الصورة) عابرة ايضاً، مع ملاحظة ان ادوات (العنصر اللفظي) من تقابل وتكرار وتتابع للعبارات، تسيطر على لغة النص المشار اليه،... فضلاًعن خضوعه لنسق بنائي خاص، يعد اهم عناصر الفن، كما انه العنصر الذي يعنى به المشرع الاسلامي، نظراً لأن (الفكر) الذي يستهدف المعصوم (عليه السلام) توصيله، لابد ان يخضع لعمارة خاصة من العرض، حتى يحقق فاعليته المطلوبة...
وحين نعود الى النص المتقدم، نجد - كما أشرنا- انه يخضع اولاً لبناء هندسي خاص هو: استهلاله بالصلاة على محمد (صلى الله عليه وآله) وبتمجيده في عبارات متنوعة يختص بها (صلى الله عليه وآله) دون سواه من المعصومين (عليهم السلام)، ثم يصوغ صلوات ذات صياغة مشتركة لكل معصوم على هذا النحو:
(امام المؤمنين، ووارث المرسلين، وحجة رب العالمين): عدا شخصية الامام علي (عليه السلام) حيث يخصه بعبارة (امير) بدلاً من (امام) وبعبارة (قائد الغر المحجلين) و(سيد الوصيين)،... وعدا شخصية الامام المهدي (عليه السلام) حيث يوظف ما تبقى من الدعاء لتمجيد شخصيته (عليه السلام) بنحو يتناسب مع طبيعة العلاقة الاجتماعية والعبادية بين الناس وبين شخصية العصر، بحيث تواجهنا عبارات من نحو:
«اللهم وصل على وليك المحيي سنتك... اللهم نور بنوره كل ظلمة، وهد بركنه كل بدعة، واهدم بعزه كل ضلالة، واقصم به كل جبار، وأخمد بسيفه كل نار، واهلك بعدله جور كل جائر، وذجر حكمه على كل حكم، وأذل بسلطانه كل سلطان، اللهم اذل كل من ناواه، واهلك كل من عاداه، وامكر بمن كاده، واستأصل من جحد حقه، واستهان بأمره، وسعى في اطفاء نوره، وأراد اخماد ذكره...».
طبيعياً، ان فقرة (اللهم) تتكرر في مقاطع متنوعة، مشيرة بذلك - من حيث عمارة النص- الى تنوع الموضوعات ذاتها، وانتقال النص من موضوع الى آخر: لكن من خلال ربطها بالبناء الفكري العام للدعاء... ولذلك ختم هذا النص بفقرات تتجانس مع البداية، بحيث جاءت النهاية والبداية مرتبطتين عضوياً، حيث كانت البداية (تفصل) الصلاة على كل معصوم، وجاءت النهاية (تجمل) ذلك، على هذا النحو:
«اللهم صل على محمد المصطفى، وعلي المرتضى، وفاطمة الزهراء، والحسن الرضا، والحسين المصفى، وجميع الأوصياء مصابيح الدجى، وأعلام الهدى، ومنار التقي، والعروة الوثقى، والحبل المتين، والصراط المستقيم...» الخ.
والآن: اذا غادرنا عنصر (البناء الفني) للنص، واتجهنا الى ادواته اللفظية والايقاعية والصورية، نجد - كما أشرنا- أن هذه الأدوات توضح النص وفق نسب متفاوتة تظل صياغتها متناسبة مع طبيعة الدعاء الذي انشىء أساساً للتلاوة في أوقات مخصوصة يتلوها العامي والمتوسط والعالم... لذلك جاءت عباراتها متأرجحة بين اللغة المصورة واللغة المقررة، حيث ان عبارات من نحو (وهي في تمجيد النبي (صلى الله عليه وآله)): «المنتجب في الميثاق»، «المصطفى في الظلال» تعد عبارات ذات بعد «صوري» ملحوظ.. كما ان عبارات من نحو: «المرتجى للشفاعة»، «المؤمل للنجاة» تعد عبارات علمية غير مصورة... كذلك نجد أن عبارات - وهي في تمجيد شخصية العصر ذاتها- من نحو:
«اللهم اذل كل من ناواه»، «واهلك كل من عاداه» تعد غير مصورة،... ولكن عبارات من نحو «اللهم نور بنوره كل ظلمة»، «وهد بركنه كل بدعة» تعد صورية كما هو واضح،... هذا يعني أن صياغة النص روعي فيها التوجه الى مطلق الاشخاص الذين يتطلعون الى شخصية العصر (عليه السلام)، بغض النظر عن مستوياتهم الثقافية، بحيث يمكن للعادي من الناس ان يدرك دلالة «المرتجى للشفاعة» او «المؤمل للنجاة»، وبحيث يمكن لغير العادي أن يفقه دلالة العبارة التي تقول بأنه (صلى الله عليه وآله) «المصطفى في الظلال» مثلاً... والمهم - بعد ذلك كله - ان عنصر الصورة، او الايقاع يظل منتثراً في هذه العبارة او تلك، موظفاً لانارة بعض الدلالات التي يتطلب توضيحها مثل هذه الصور، او لاثارة الحس الجمالي لدى القارىء فيما تتطلب العنصر الايقاعي... لذلك نواجه صوراً من نحو: (شرف بنيانه)، (أضىء نوره)، (بيض وجهه)، (نور بنوره كل ظلمة)، (هد بركنه كل بدعة)، (أهدم بعزه كل ضلالة)، (أقصم به كل جبار)، (أخمد بسيفه كل نار)، (اهلك بعدله جور كل جائر)، (استأصل من جحد حقه)، (سعى في اطفاء نوره)، (أراد اخماد ذكره)، الخ... كما نواجه عبارات مقفاة من نحو: (شرف بنيانه، وعظم برهانه)، (افلج حجته، وارفع درجته)، (اعطه الفضل والفضيلة، والمنزلة والوسيلة)، (أقصم به كل جبار، واخمد بسفيه كل نار)، (أذل كل من ناواه، واهلك كل من عاداه)...الخ.
لا شك ان امثلة هذه العبارات المقفاة تزيد من جمالية النص وتهبه عنصراً يساهم في امتاع القارىء وإرواء حسه الجمالي،... كما ان الصور المتنوعة التي لحظناها وهي جميعاً استعارات، تهبه جمالية ايضاً، فضلاً عن كونها تساهم في تعميق الدلالة... والاهم من ذلك ان هذه الصور تتميز بكونها (استعارات). (تمثيلات) فحسب دون ان تتنوع اشكالها من تشبيه، استدلال، فرضية... الخ، حيث يصبح مثل هذه الحصر للصور في التركيبة الاستعارية والتمثيلية شيئاً له دلالته الفنية، من حيث خضوع النص لـ (وحدة الصورة)، وهي وحدة تتجانس مع (وحدة الموضوع) ايضاً، لان الموضوع هو: تمجيد اهل البيت (عليهم السلام)، وحينئذ عندما (تتوحد الصور) انما تتجانس بذلك مع (وحدة الموضوع) وهو امر له اهميته الفنية الكبيرة من حيث البناء الهندسي للنص، علماً بان الصور التمثيلية تفرضها طبيعة التعريف بشخصية المعصوم (عليه السلام)، والصور الاستعارية تفرضها طبيعة اكتساب الظواهر: تبادل السمات فيما بينها لغرض توضيحها بشكل اكثر جلاء... ليس هذا فحسب. بل ان الصور تمضي بنحوها المألوف جداً لا ضبابية فيها ولا تعقيد،... انها واضحة كل الوضوح، يحياها القارىء في تجاربه اليومية،... لكنها تنطوي على دلالات عميقة العمق... فقوله - على سبيل المثال-: «واخمد بسيفه كل نار» تبدو (الصورة) فيها واضحة، بسيطة... لكنها تلتقط أدق الظواهر من السلوك الاجتماعي الذي يحياه الناس، حيث ان شيوع الفتن تشبه تماماً ظاهرة (النار) التي تأتي على الأشياء جميعاً... كذلك فان الفتن تأتي على جميع المواقف او الأفكار الأصيلة... وهكذا سائر الصور من نحو: «مصابيح الدجى، وأعلام الهدى، ومنار التقى، والعروة الوثقى، والحبل المتين، والصراط المستقيم»... فهذه الصور (التمثيلية) تبدو واضحة، جلية،... الا انها ذات عمق وشمولية متنوعة في دلالاتها، فالمصباح، والعلم، والمنار، والعروة، والحبل، والصراط يحمل كل منها دلالة متميزة على الأخرى، كما ان كلاً منها يصب في معطى عبادي له سمته الخاصة به... فالمصباح ينير فكرياً، والعلم يشير الى الانتماء فكرياً ومصيرياً، والحبل يشير الى تأمين الموقف اخروياً، وهكذا...
*******
(۱) المصباح، الطوسي: ص ۳٦۳.
*******