ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "كُلُّ فَانٍ يَسيرٌ".
هذه معادلة يقررها أمير المؤمنين (ع)، كلُّ ما يفنى فهو قليل ولو بلغ ما بلغ من الكثرة، فهب أنك ملكت الدنيا بأسرها، فأنت تملك القليل اليسير لأن الدنيا نفسها فانية زائلة، لا تدوم ولا تبقى، كما إن الله تعالى يقول: "كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ﴿26/ الرحمن﴾.
إن الآية الكريمة تدل على انقطاع أمد النشأة الدنيوية، وارتفاع حكمها بفناء من وما عليها من الكائنات، وانتقالهم إلى نشأة الآخرة، وهي دار البقاء والدوام والخلود، فالحياة الدنيا مهما طالت فإنها يسيرة قليلة حقيرة قياساً على الآخرة، ومهما طالت فمصيرها الزوال والفناء، وإن هذا الفناء من الدنيا والانتقال إلى نشأة الآخرة من نِعَم الله الكبرى على الإنسان.
فإن الانتقال من دار محكومة بالكَدِّ والتعَّب والنَّصَب والعَناء، والقِلَّة، والفقر، والحاجة، والمرض والأوجاع والآلام، والأتراح والأحزان، والمشاكل والنزاعات والصراعات والحروب، إلى دار البقاء والخلود، والراحة، والعيش الرغيد، والجنان الوارفة، لهو من أعظم وأَجَلِّ النِّعَم.
,لقد وصف الله الدنيا بأنها مَتاع في أكثر من آية، منها قوله تعالى: "وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴿185/ آل عمران﴾ والمَتاعُ كلُّ شيء يُنْتَفَعُ به، ويُتَبَلَّغُ به، ويُتَزَوَّدُ مِنهُ، والفَناءُ يأْتي عليه في الدنيا.
وبكلمة أخرى: المَتاع هو الشيء الذي ينتفع به المرء ثم يذهب ولا يبقى، وهذه هي حقيقة الدنيا، إنها مَتاعٌ، ينتفع المرء بها ويتزوَّد منها ثم يرتَحِل عنها إلى دار البقاء والدوام والخلود، وكل شيء في الآخرة يتجدَّد ويدوم، وإذا كان الأمر كذلك فلا ينبغي لعاقل أن يتعلَّق بما يفنى ويزول، ويترك ما يدوم ويتجدَّد، ولا ينبغي له أن يفضِّلَ القليل على الكثير، ولذا يستنكر الله علينا هذا النحو من التصرف فيقول: "...أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ﴿38/ التوبة﴾.
وإذاً، فالدنيا ما دامت فانية، فكل ما فيها فانٍ، وكل فانٍ يسير، وعلى المَرء أن يُحِسنَ الإفادة من هذا اليسير لبناء العالم الباقي الدائم الذي سينتقل إليه عاجلاً أو آجِلاً، وأن يتعامل مع كل ما يناله في الدنيا على قاعدة أنه سيفنى ويضمحل ويزول، فلا يطمئن إلى بقائه ودوامه، ولا يتعلَّق قلبه به، لأن التعلُّق بالفاني يُفني القلب في الحقيقة، والتعامل معه على أنه دائم باقي سيكون خطأً فادحاً، وستكون آثار فقده وهو سيفقده حتماً، ستكون آثار ذلك كارثية عليه، وستترك في نفسه جروحا لا تندمل، وحُزناً لا يزول.
ألا ترى قارئي الكريم أن تعلَّق قلب المرء بمقتنياته تتقَطِّع نياط قلبه إذا ما خسرها، ويورثه حُزناً مؤبَّداً، وكذلك إذا تعلَّق قلبه بزوجه أو ولده أو قريبه وكلهم سيموت ويرتحل عن دار الدنيا يترك في نفسه أَلَماً لا يبرأ منه؟
ولهذا السبب يصعُبُ علينا فقد الأحِبَّة، بل لهذا السبب نكره الموت مع يقيننا به، ويقيننا أننا بالموت ننتقل إلى دار الرحمة الإلهية، ولهذا أجاب رسول الله (ص) رجلا سأله عن عِلَّة كراهة الموت، فقال (ص) له: "أَلَكَ مَالٌ، قال الرجل: نعم، قال (ص): فَقَدَّمتَه؟ قال: لا، قال (ص): فَمِنْ ثمَّ لا تُحِبُّ المَوْتَ".
بقلم الكاتب والباحث اللبناني
السيد بلال وهبي