وتتعرف أنظمة الاستشعار الحالية -وخاصة تلك التي تعمل بالذكاء الاصطناعي- على الأشياء وسلوكها من إشارات الصور المستلمة باستخدام خوارزميات معقدة، ويمثل هذا الأسلوب تحديا للتطبيق على الأجهزة المحمولة أو أجهزة إنترنت الأشياء، نظرا لارتفاع حركة البيانات واستهلاك الطاقة المطلوبة، وهي المشكلة التي تحلها المستشعرات الجديدة المستوحاة من الحشرات، والتي أعلنت عنها دراسة جديدة نُشرت بدورية “أدفانسد ماتريلز”.
وتبدو أنظمة الرؤية التقليدية كمن يحاول حل لغز يحتوي على الكثير من القطع، فهو يستغرق وقتا طويلا ويستهلك الكثير من التفكير للوصول إلى حلول. لكنْ مع المستشعر المستوحى من الحشرات، ستبدو وكأنك شخص فائق الذكاء بإمكانه إلقاء نظرة سريعة على اللغز ومعرفة ماهيته على الفور.
وتتمتع الحشرات بهذه القدرة الفائقة والسريعة على معالجة المعلومات المرئية بشكل فعال، لامتلاكها دائرة عصبية بصرية تسمى “كاشف الحركة الأولية”، مما يسمح لها باكتشاف الأشياء والتعرف على حركتها على مستوى متقدم، وكانت محاكاة هذا المسار باستخدام تقنية الدوائر المتكاملة السيليكونية التقليدية تحديا كبيرا، إذ يتطلب الأمر دوائر معقدة، وبالتالي كان تنفيذها في الأجهزة الفعلية محدودا، وهنا يأتي الاختراق الذي حققه الكوريون باستخدام “الميمريستورات”.
و”الميمريستورات” هي نوع من المكونات الإلكترونية التي يمكنها تغيير مقاومتها بناء على تاريخ الجهد أو التيار المطبق، أي أنها بعبارة أبسط تتذكر مقدار الشحنة الكهربائية التي مرت عبرها، مما يسمح لهم بالاحتفاظ بمعلومات عن التيارات أو الفولتية الماضية.
ولتقليد وظائف العصب البصري في الحشرات، استخدم الباحثون نوعين من “الميمرستورات” لإنشاء بنية بسيطة وفعالة لمستشعر الحركة الذكي، حيث كان أحدها مسؤولا عن تأخير الإشارة، بينما قام الآخر بدمجها وإشعالها، على غرار الطريقة التي يعالج بها العصب البصري للحشرات المعلومات البصرية.
وباستخدام خصائص “الميمريستورات”، نجح الباحثون في تكرار وظيفة كاشف الحركة الأولية للعصب البصري للحشرة، وذلك عبر الآتي:
حساسية الاتجاه:
كاشف الحركة الأولية للعصب البصري للحشرة حساس لاتجاه الحركة، حيث تستجيب الخلايا العصبية المختلفة لاتجاهات محددة، وبالمثل استخدم الباحثون “الميمريستورات” لإنشاء هيكل يكون فيه نوع واحد من “الميمريستور” مسؤولا عن تأخير الإشارة، وتحاكي وظيفة التأخير حساسية اتجاه كاشف الحركة من خلال السماح للنظام بمعالجة الإشارات من اتجاهات مختلفة بشكل منفصل.
الفصل المكاني:
تقوم الحشرات بدمج المعلومات المرئية من الجوانب المجاورة لعيونها المركبة لاكتشاف الحركة عبر المجال البصري بأكمله، وحقق الباحثون تأثيرا مشابها من خلال دمج “ميمريستورات” متعددة في تصميم مستشعر الحركة الخاص بهم، ويسمح هذا الفصل المكاني للجهاز بالتقاط ومعالجة المعلومات من أجزاء مختلفة بالمجال البصري، على غرار كيفية عمل العصب البصري للحشرة.
التكامل الزمني:
تدمج الحشرة -من خلال كاشف الحركة الأولية للعصب البصري- الإشارات المرئية مع مرور الوقت لتعزيز اكتشاف الحركة، وباستخدام “الميمريستورات” لتأخير ودمج الإشارات، قام الباحثون بتكرار عملية التكامل الزمني، وتتيح وظيفة التأخير لأحد أنواع “الميمريستور” بالمستشعر مقارنة الإطارات المتعاقبة للمدخلات المرئية، على غرار الطريقة التي يحدد بها كاشف الحركة في الحشرات التغييرات في الموضع بمرور الوقت.
تحسين التباين:
يعمل كاشف الحركة الأولية للعصب البصري بالحشرات، على تحسين التباين بين الأجسام المتحركة والخلفية، مما يساعد في اكتشاف الحركة، وتساهم وظائف التأخير والتكامل لـ “الميمريستورات” في تعزيز التباين عن طريق تضخيم الإشارات المتعلقة بالأجسام المتحركة بشكل انتقائي.
وفي مختبر المعهد الكوري المتقدم للعلوم والتكنولوجيا، أعطى مستشعر الحركة المستوحى من كاشف الحركة الأولية للعصب البصري بالحشرات نتائج إيجابية، لكنّ الفريق كان بحاجة إلى اختباره على أرض الواقع لمعرفة مدى فعاليته.
ولتحقيق هذه الغاية، يشير بيان أصدره المعهد إلى أن الفريق البحثي استخدم كاشف الحركة الجديد المستوحى من الحشرات لإنشاء نظام حوسبة عصبي يمكنه التنبؤ بمسار مركبة متحركة، وكانت النتائج مذهلة، إذ وجدوا أنه يستخدم طاقة أقل بنسبة 92.9% من التكنولوجيا الحالية، ويمكنه إجراء تنبؤات بدقة أعلى بكثير.
ويقول الأستاذ بقسم علوم وهندسة المواد والباحث الرئيسي في الدراسة البروفيسور كيونج مين كيم، في البيان: “هذا البحث يمكن أن يساهم في تكامل أنظمة الرؤية الفعالة للتعرف على الحركة، لذلك نتوقع تطبيقه في مجالات مختلفة مثل المركبات ذاتية القيادة، وأنظمة نقل المركبات والروبوتات والرؤية الآلية”.
وتبقى التجربة التي أشار إليها البيان الصحفي محدودة بظروف معينة تخص وقت تنفيذها، لذلك فإن انتقال هذا المستشعر للاستخدام التجاري يحتاج إلى تجارب موسعة تجيب على أسئلة متعددة يشير إليها أستاذ “الميكاترونكس” بجامعة بني سويف المصرية محمود شندي في حديث هاتفي مع “الجزيرة نت”.
ويقول شندي: إنه “يجب تنفيذ أكثر من تجربة لمعرفة ما مدى قوة الجهاز وموثوقيته في ظل الظروف البيئية المختلفة، مثل التغيرات في الإضاءة أو الطقس أو التضاريس”.
وإذا كان الجهاز أعطى دقة أعلى واستخدم طاقة أقل في التجربة المحدودة التي نُفذت، فهل سيحقق نفس النسبة مع مضي بعض الوقت على استخدامه؟ ومن ثم فإن أحد الأسئلة المهمة التي يرى شندي ضرورة معالجتها، هو: “ما مدى استقرار أدائه بعد فترات طويلة من الاستخدام؟”.
ويبقى السؤال الأهم، وهو المتعلق بـ”التكلفة”، ويقول: “هناك حاجة أيضا إلى معرفة ما مدى فعالية التكنولوجيا الجديدة من حيث التكلفة، وما مدى إمكانية وصولها لمختلف الصناعات، وما مدى سهولة دمجها في الأنظمة والأجهزة الحالية؟”.