بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله الهداة الابرار. مستمعينا الكرام السلام عليكم ورحمة الله وبركاته واهلاً بكم الى برنامج القصص الحق، ايها الأحبة في هذه الحلقة من البرنامج نواصل الحديث عن قصّة نبي الله عيسى (عليه السلام) ونتناول المشهد الذي صوَّرته الآيات الحادية عشرة بعد المئة حتى الآية الخامسة عشرة بعد المئة من سورة المائدة المباركة فتابعونا ايها الكرام ضمن الفقرات التالية.
بدايةً ننصت خاشعين الى تلاوة هذه الآيات، ثم نتعرف على بعض مفرداتها وعباراتها. ونستمع الى حديث ضيف هذا اللقاء سماحة السيد عبد السلام زين العابدين الاستاذ في العلوم القرآنية حول المراد من قول الحواريين (هل يستطيع ربك)، وعن معنى الكفر الذي يحذّر منه الله عزوجل في هذه الآيات. ثم نتابع معاً سَردَ هذه الحكاية. ونواصل البرنامج بتقديم روايتين أُولاهما عن النبي (صلى الله عليه وآله) والاُخرى عن الامام الرضا (عليه السلام) بشأن الموضوع،. ومسك الختام مع باقةٍ من الدروس والعبر المأخوذة من هذه الحكاية، فأهلاً ومرحبا بكم الى فقرات هذا اللقاء.
المقدمة
تعقيباً على ما جاء في الآيات السابقة من بحث حول ما أنعم الله به على المسيح (عليه السلام) وأُمه، يدور الحديث هنا حول النعم التي أنعم الله بها على الحواريين، أي أصحاب المسيح (عليه السلام) فلنستمع متدبرين لتلاوة هذه الآيات المباركات من سورة المائدة:
التلاوة
"وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ{۱۱۱} إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ{۱۱۲} قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ{۱۱۳} قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ{۱۱٤} قَالَ اللّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ الْعَالَمِينَ{۱۱٥}"
المفردات
في البداية تشير الآية الحادية عشرة بعد المئة إلى ما أُوحي إلى الحواريين أن يؤمنوا بالله وبرسوله المسيح (عليه السلام) فاستجابوا، يقول الله عزَّ من قائل: "وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ". إن للوحي في القرآن معنى واسعاً لا ينحصر في الوحي الذي ينزل على الأنبياء، بل أن الإلهام الذي ينزل على قلوب الناس يعتبر من مصاديقه أيضاً، لذلك جاء هذا المعنى في الآية السابعة من سورة القصص بشأن أم موسى التي أوحي إليها. بل إنّ الكلمة تطلق في القرآن حتى على الغرائز التكوينية عند الحيوان، كالنحل، وهناك احتمال أن يكون المقصود هو الإيحاء الذي كان يُلقيه المسيح (عليه السلام) بواسطة المعاجز في نفوسهم.
ثم تذكر الآية نزول المائدة من السماء: "إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ". «المائدة» تعني في اللغة السفرة والطبق، كما تعني الطعام الذي يوضع عليها، وأصلها من «ميد» بمعنى التحرك والإهتزاز، ولعلّ سبب إطلاق لفظة المائدة بمعنى السفرة والطعام هو ما يلازمها من تحريك وانتقال. عند طلب الحواريين هذا شعر المسيح (عليه السلام) بالقلق لأن طلبهم هذا يدل على الشك والتردد، على الرغم من كل تلك الأدلة والآيات، فخاطبهم "قَالَ اتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ"، ولكنهم سرعان ما أكَّدوا للمسيح (عليه السلام) أنّ هدفهم بريء وأنهم لايقصدون العناد واللجاج، بل يريدون الأكل منها لتعزيز الحالة النّورانية في قلوبهم ببركة تناول الغذاء السماوي. وهكذا يُعبر القرآن: "قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ". فبيّنوا قصدهم أنّهم طلبوا المائدة للطعام، ولتطمئن قلوبهم به لما سيكون لهذا الطعام الإلهي من أثر في الروح ومن زيادة في الثقة واليقين. ولمّا أدرك عيسى (عليه السلام) حسن نيّتهم في طلبهم ذاك، عرض الأمر على الله: "قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ". فأستجاب الله لهذا الطلب الصادر عن حسن نيّة وإخلاص "قَالَ اللّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ الْعَالَمِينَ". لاشك أن الحواريين لم يكونوا مدفوعين بقصدٍ سيء في طلبهم هذا، ولا هم كانوا يريدون المشاكسة والمعاندة، بل كانوا يرغبون في بلوغ مرحلة الإطمئنان الأقوى وإبعاد ما بقي من رواسب الشك والوسوسة من أعماقهم.
«العيد» في اللغة من «العود» أي الرجوع، لذلك فذكرى الأيام التي تنزاح فيها المشاكل عن قوم أو مجتمعٍ وتعود أيام الفوز والهناء الأوّل تكون عيداً، كذلك هي الأعياد الإسلامية، فبعد شهر من طاعة الله في صوم شهر رمضان، أو بعد أداء فريضة الحج العظيمة، يعود إلى النفس طهرها وصفاؤها، ويزول التلوث عن الفطرة، فيكون العيد، ولمّا كان يوم نزول المائدة يوم العودة إلى الفوز والطهارة والإيمان بالله، فقد سمّاه المسيح (عليه السلام) عيدا.
*******
زين العابدين: بسم الله الرحمن الرحيم، طبعاً هنا وقع في عالم التفسير، هناك آراء متعددة في تفسير هذا الطلب "هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ" وخصوصاً نعلم ان هؤلاء هم الحواريون يعني هؤلاء الذين يختصون بعيسى او يختص بهم عيسى عليه السلام فكيف يسأل هؤلاء هذا السؤال؟ "هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ"؟ كأنه هناك شك بقدرة الله عزوجل على تنزيل المائدة من السماء مع انهم رأوا معاجز عيسى عليه السلام بل ان عيسى عليه السلام نفسه هو معجزة، عيسى هو ولد من غير اب، هو جاء من مريم العذراء عليها السلام فكيف يسأل هؤلاء فقطعاً هم ليسوا في شك في الله على انزال المائدة ولهذا تعددت التفاسير والتوجيهات والتأويلات في معنى هذا السؤال "هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ"؟ يرى بعض المفسرين ان افضل توجيه لهذا السؤال هو ان يكون السؤال عن الاستطاعة بمعنى السؤال عن وجوه الحكمة او المصلحة او وجود هذه الحكمة يعني هل توجد هناك حكمة لأن تسأل الله عزوجل بنزول المائدة؟ ليكون المعنى هل هناك مصلحة في ان تسأل الله او ان تسأل الله عزوجل بنزول المائدة؟ هل هناك مصلحة تقتضي نزول المائدة؟ فالسؤال عن الاستطاعة سؤال عن الحكمة والمصلحة وليس سؤال عن اصل القدرة. طبعاً هذا المعنى جاء في رواية ينقلها العلامة الطبرسي في مجمع البيان عن الامام الصادق عليه السلام "هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ"؟ يقول عن الامام ابي عبد الله الصادق عليه السلام معنى الاية هل تستطيع ان تدعو ربك هكذا يعني هل يستطيع ربك يعني هل تستطيع ان تدعو ربك يعني هل هناك وجه حكمة في دعوة كهذه، طبعاً بعضهم قال هذا من باب ليطمئن قلبي كما في ابراهيم عليه السلام "رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي" فهناك وجوه متعددة في عالم التفسير في سؤال الحواريين، هذا السؤال الذي يبدو غريباً ويبدو عجيباً ولهذا هم قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ" فسأل عيسى عليه السلام هذا السؤال "اللهم ربنا انزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا" هنا انظر عيسى عليه السلام وجه السؤال توجيهاً مؤدباً توجيهاً يليق بمقام الله عزوجل وانما جعل الهدف والغاية يعني اعطاه الهدف والعنوان عنوان العيد او العيدية وليس فقط مقام الاكل "اللهم ربنا انزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيداً لأولنا واخرنا" وطبعاً هذا السؤال سؤال مرضي ومقبول لأن العيد ضروري لكل امة والعيد يكون يوماً تتحابب فيه النفوس وتتآخى فيه القلوب ولهذا حينما قال لهم الله عزوجل "إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ الْعَالَمِينَ" هذا طبعاً السنة الالهية الربانية حينما يكون هناك صراحة بالطلب فجاء هذا مشروطاً يعني انزل هذه المائدة ولكن الذي يكفر بعدها فله عقوبة استثنائية، لماذا؟ لأنه طلب هذا بنفسه وهذا طبيعة الاقتراحات القرآنية حينما يقترح الكافرون اموراً الله عزوجل يعني لايستجيب لها ولايحقق هذه الامور ولكن هنا شرطها بشرط الايمان وعدم الكفر والكفر يعني العاقبة السيئة لهؤلاء لأنهم طلبوا امراً، اقترحوا نزول مائدة من السماء وهذا يعني كأن طلب لاداعي له بنفسه ولهذا جاء الجواب "اتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ" يعني هنا توبيخ"اتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ"، "قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ" هذا توجيه الاقتراح بنزول المائدة فهم لايريدون ان يأكلوا منها فحسب بل لهذا النزول فؤائد اخرى واغراض اخرى منها اطمئنان القلوب وغير ذلك فلهذا العذاب امر الهي لأنهم سألوا آية معجزة مع كون هؤلاء الحواريين يعني يغطون في المعجزات وفي الايات يعني آيات عيسى كثيرة، هو نفسه عيسى معجزة، عيسى عليه السلام كان آية من آيات الله عزوجل ولد من غير اب، ولدته مريم العذراء، السيدة العذراء ولذلك لم يكن اقتراحهم اقتراحاً وجيهاً الا بعد ان وجهه عيسى عليه السلام توجيهاً بعنوان العيد والعيدية "تَكُونُ لَنَا عِيداً لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا".
*******
ثمة نقاطٌ نوكل الحديث عنها لضيف البرنامج، ومنها هو أنّ ظاهر طلب الحواريين يوحي بأنّهم كانوا لا يعرفون حدود قدرة الله على إنزال مائدةٍ لكن للمفسّرين آراءً في تفسيرهم لهذه الاية هذه نقطةٌ والاخرى المقصود من الكفر الذي تحدثت الآية عنه قائلةً "فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ الْعَالَمِينَ"، نتعرف على هاتين النقطتين من خلال الاتصال الهاتفي التالي مع ضيف اللقاء السيد عبد السلام زين العابدين.
القصة
اشتهر إحياء المسيح (عليه السلام) للأموات وشفاؤه للأمراض، ولذا ازدلف إليه الناس من كل مكانٍ، يطلبون الشفاء منه، وفي ذات مرةٍ (قال الحواريون) وكان بصحبتهم جمعٌ كثيرٌ: "يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ"؟ وكان هذا السؤال من المؤمنين ليرى ضعفاء الإيمان قدرة الله تعالى، بالإضافة إلى أنهم أرادوا (عين اليقين) فقال لهم عيسى (عليه السلام): "قَالَ اتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ" ولا تسألوه سؤال اقتراحٍ وإن كان لا بأس بالسؤال لأجل قوة اليقين، كما سأل إبراهيم (عليه السلام) ربّه أن يريه كيف يحيي الموتى. أجاب الحواريون على كلام عيسى (عليه السلام): "نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا " بالإيمان، لأنّ الأكل معاينةٌ وهي فوق العلم (ونعلم) علماً يقينياً "أَن قَدْ صَدَقْتَنَا" في قدرته تعالى على كل شيءٍ وأنها ليست كقدرة المخلوقات "وَنَكُونَ عَلَيْهَا" أي على المائدة المنزلة من السماء "مِنَ الشَّاهِدِينَ" الذين يشهدون إنّها نزلت من السماء بقدرته سبحانه، فإذا سئلنا في المستقبل: هل رأيتم آثار قدرة الله الخارقة؟ نجيب بالإثبات، ويكون ذلك أدعى إلى إيمان الناس.
هنالك دعا المسيح ربّه تعالى لإجابة طلب هؤلاء رافعاً يديه نحو السماء داعياً: "اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ"، فكان الناس يتّخذون الأيام العظيمة التي تجدّد فيها نعمةٌ عظيمةٌ من الله عيداً، فيعيدون ذكرى ذلك اليوم كل عام كاتخاذ يوم ميلادٍ، أو نصرٍ، أو ما أشبه، عيداً يعاد السرور والفرح في كل عام. وهنا أجاب الله دعاء المسيح (عليه السلام)، فـ "قَالَ اللّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ الْعَالَمِينَ". هدّد الله عزوجل الذي يكفر بهذه الآية العظيمة عذاباً لا مثيل له لأنه كفر بعد المعاينة، وذلك عنادٌ ولجاجة.
رأى الناس سفرةً حمراء، بين غمامتين، تهوي من ناحية السماء إلى الأرض حتى وصلت ووقفت أمامهم، وكان عليها أرغفةٌ، وسبع أسماك. فلما رآها عيسى (عليه السلام) بكى وقال: اللهمّ اجعلني من الشاكرين، اللهمّ اجعلها رحمةً. فوجدوا منها رائحةً طيبةً، لم يجدوا مثل ذلك طيب قبله. فقام المسيح (عليه السلام) وتوّضأ وصلّى، ثم قال للحاضرين وهم جمعٌ غفيرٌ: بسم الله! فأكل الجميع من ذلك الطعام حتى شبعوا. وكان هذا إعجازاً آخر. وقيل انه أكل من تلك المائدة المنزلة على المسيح (عليه السلام)، أكثر من ألفٍ وثلاثمائة فقيرٍ ومريضٍ وما أشبه من أهل الفاقة والعاهة فقط، أمّا غيرهم فكثيرون. ولمّا أتمّوا الأكل، رجع الطعام كما كان، كأن لم يأكل منه أحد. ثم ارتفعت المائدة إلى السماء. وهكذا كان، تنزل المائدة أربعين صباحاً، يوماً دون يومٍ يراها الناس وقت نزولها، ووقت صعودها، ويأكلون منها، ثم ترجع كما كانت بدون نقص. وقد تكبّر الملأ وأنفوا عن أن يشتركوا مع الفقراء في الأكل فقرّروا ذات مرة، أن يستأثروا هم وحدهم بهذه المائدة، وأن يمنعوا الفقراء منها فلم تنزل المائدة، وارتفعت إلى الأبد. ومسخ جمع كثيرٌ منهم جزاءً لكفرانهم وعتوّهم قردةً وخنازير، فأصبحوا يسعون في الطرقات، ويأكلون القاذورات، ثم لم يبقوا إلاّ ثلاثة أيامٍ حتى هلكوا.
من هدى الائمة _عليه السلام_
روي في كتاب مجمع البيان عن عمار بن ياسر عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: نزلت المائدة خبزاً ولحماً، وذلك لأنهم سألوا عيسى طعاماً لا ينفد يأكلون منها، قال: فقيل لهم: فإنها مقيمةٌ لكم ما لم تخونوا وتخبّئوا وترفعوا فإن فعلتم ذلك عذّبتم، قال: فما مضى يومهم حتى خّبئوا ورفعوا وخانوا. وفي تفسير العياشي، عن الفضيل بن يسارٍ عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: إنّ الخنازير من قوم عيسى سألوا نزول المائدة فلم يؤمنوا بها فمسخهم الله خنازير.
دروس وعبر
كثيراً ما يحدث أنّ انساناً يتأكّد من أمرٍ بالمنطق وحتى بالتجربة، ولكن إذا كان الأمر مهماً جداً فإنّ بقايا من الشك والتردّد تظلّ في ثنايا قلبه، لذلك فهو شديد الرغبة في أن تتكرّر تجاربه واختباراته، أو أن تتبدل استدلالاته المنطقية والعلمية إلى مشاهداتٍ عينيةٍ تقتلع من أعماق قلبه جذور تلك الشكوك والوساوس، ولهذا نرى إبراهيم (عليه السلام)، على ما كان عليه من مقامٍ ويقينٍ يسأل الله أن يرى المعاد رأي العين لكي يتبدل إيمانه العلميّ إلى «عين اليقين» وإلى «شهود» وهكذا الحال بالنسبة الى الحواريين.
من الواضح هنا أنّ الأسلوب الذي عرض به عيسى بن مريم (عليه السلام) قضية طلب الحواريين على الله كان أليق وأنسب، ويحكى عن روح البحث عن الحقيقة ورعاية الشؤون العامّة للمجتمع حيث يغيّر (عليه السلام) أسلوب الحديث مع الله تعالى فبدل ان يقول: (نريد أن نأكل منها) اي المائدة يقول: "اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ".
نستنتج من هذه الآيات جواز التوسل بالأنبياء (عليهم السلام) كما توسل الحواريون بعيسى (عليه السلام). وأخيراً عندما يبلغ الإيمان مرحلة الشهود وعين اليقين، فإنّ مسؤولية المرء تزداد وتثقل، لأنّ هذا المرء لم يعد ذلك الذي كانت تنتابه الوساوس والشكوك من قبل، بل هو امرؤ ورد مرحلةً جديدةً من الإيمان وتحمّل المسؤولية، فأقلّ تقصيرٍ أو غفلةٍ من جانبه يستدعي العقاب الشديد.