وقال الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد مخاطباً رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) (المائدة/ 67). جاء هذا النداء الإلهي والتكليف الربّاني للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد حجّة الوداع التي ودّع فيها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) المسلمين، من أجل أن تمتد حركة النبوّة وتنفتح قاعدة الإسلام في امتداده عبر حركة الولاية. فالله سبحانه يطلب من رسوله أن يبلّغ ما أنزل إليه، في ولاية عليّ (عليه السلام)، إلى المسلمين، لأنّ المسألة في مستوى الخطورة، لأنّ هذه الرسالة التي جاهد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في الدعوة إليها، تحتاج بعد رسول الله إلى ولي يملك كلّ فكرها في العقيدة والشريعة والمنهج والحياة، وكلّ روحيتها في الانفتاح على الله، وكلّ مسؤوليتها في الانفتاح على الأُمّة، وكلّ شجاعتها وصلابتها في صلابة الموقف وشجاعته، وكلّ صدقها وأمانتها في كلّ ما يحمّلها الله من مسؤوليات، وكلّ حركتها في تثقيف الناس بالإسلام. وبالتالي، لابدّ من أن يتولى أُمور المسلمين بعد رسول الله شخص عاش رسول الله بكلِّه، وكان عقله عقل رسول الله، وروحه من روح رسول الله.
الإمام عليّ (عليه السلام) عاش مع رسول الله منذ أن كان طفلاً، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يربيه خُلقاً «ولقد كنت أتّبعه اتّباع الفصيل أثر أُمّه، يرفع لي في كلّ يوم من أخلاقه علماً». هكذا قال عليّ (عليه السلام): «علّمني رسول الله ألف باب، فتح لي من كلّ باب ألف باب»، وكان مع رسول الله في كلِّ حروبه وفي كلِّ حركته في الدعوة، وفي كلِّ حركته في قيادة المجتمع.
كان بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بيته، «لم يجمع بيتٌ واحد يومئذٍ في الإسلام ـ كما يقول الإمام عليّ (عليه السلام) ـ غير: رسول الله وخديجة وأنا ثالثهما»، ثمّ جدّد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) له البيت، بأن زوّجه من ابنته فاطمة (عليها السلام)، فكان بيت فاطمة بيت رسول الله، وكان وجوده وراحته واطمئنانه هناك، فإذا عاد من السفر، كان أوّل الناس عهداً به بيت فاطمة، وإذا أراد الخروج إلى السفر كان آخر الناس عهداً به بيت فاطمة (عليها السلام). هذا الإنسان الذي كان عصارة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، لم يصطحب رسول الله أحداً من أصحابه كما اصطحب عليّاً (عليه السلام). كان يعيش داخل رسول الله كما كان يعيش في بيته، ولذلك كان وحده المؤهَّل لأن يقود مسيرة الإسلام، ولذلك قال الله لرسوله إنّك بنيت بناءً وركّزت قاعدة وصنعت مجتمعاً إسلامياً وأسست دولةً، والمستقبل يحتاج إلى مَن يرعى كلّ ذلك، لأنّه إذا ترك من دون رعاية فسيضعف كلّ ذلك، وربّما ينهار.
في تلك اللحظة وقف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الصحراء في منطقة يُقال لها خُمّ، وكان الوقت هجيراً في وقت الظهيرة، ونادى رسول الله المسلمين الذين كانوا معه في حجّه قبل أن يتفرّقوا ويعود كلّ واحد منهم إلى بلاده، ناداهم ليجتمعوا، ونُصب له منبر من أهداج الإبل، وأخذ عليّاً بيديه ورفعهما، وقال بعد الخطبة: «أيّها الناس، ألستُ أولى بالمؤمنين من أنفُسهم ـ ألست الولي عليكم، وقد جعل الله لي الولاية على كلّ واحد منكم أكثر من ولايته على نفسه ـ قالوا اللّهُمّ بلى، قال: اللّهُمّ اشهد، ثمّ قال: مَن كنتُ مولاه فهذا عليٌّ مولاه، الله والِ مَن والاه، وعادِ مَن عاداه، وانصُر مَن نصره، واخذُل مَن خذله، وأدِر الحقّ معه حيثما دار، ألا هل بلّغت، اللّهُمّ فاشهد». وهكذا خاطب المسلمون عليّاً بإمرة المؤمنين، وقال له بعض الصحابة: «بخٍ بخٍ لك يا عليّ، أصبحت مولانا ومولى كلّ مؤمنٍ ومؤمنة».
إذن منهج الإمام عليّ (عليه السلام) في الإسلام.. منهج المسؤولية عنه وعن المسلمين. هذا هو عليّ (عليه السلام)، الإنسان الذي لم يعش لذاته منذ أن كان في ليلة الهجرة عندما بات على فراش رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، والسيوف مسلّطة فوق رأسه، وهو يغطي انسحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فنزلت هذه الآية: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ) (البقرة/ 207).
الوفاق / عمار كاظم