مرة اخرى مع التيارات الجديدة التي افرزتها الحضارة الغربية المادية وبالتحديد مع الوجودية كمذهب شاع الى حد ما بعد الحرب العالمية الثانية، وكان ظهور الفلسفة الوجودية نتيجة لاثار الحرب المدمرة والاحساس بالخطر الداهم الذي يهدد البشرية في اية لحظة من جراء استعمال السلاح النووي، كل ذلك حرك النفس الغربية الى تأكيد الذات وانفلاتها من كل القيود واندفاعها نحو المتعة وتنفيذ الرغبات، من هنا ركزت الوجودية على الفرد للاعتزاز بحقه وقد اذهبت وجود الفرد على وجود الجماعة كما رفضت قضية الالتزام والضمير والفضيلة والخير والعدل والمسؤولية وهي ترفض كل ما يضبط الشخصية الانسانية ويرتفع بها، وتدفع المرأة القاء اهواءه لتدمره والى مطامعه لتحطم وجوده، ويرتبط بهذا رأي الوجودية في الزواج والطلاق وحرية الصداقة واهمال امر الدين كل الاهمام وعندئذ تتجاوز الوجودية حدود الحرية ومقاييس المجتمع الى الاعتداء على حقوق الآخرين والعودة الى شريعة الغاب.
ومن البين ان الوجودية ليست الا اسماً جديداً لمضمون قديم هو التشاؤم الموروث في اعماق الفكر الغربي منذ الوثنيات اليونانية وبؤس الانسان، ومن خلال هذه الايدولوجية السوداوية المتشائمة تنتشر في الغرب افكار اللا معقول في الادب والحياة والعبثية في الوجود.
الباحثون يرون ان الوجودية هي اعلى مراتب التشاؤم وهي استجابة للحيرة والقلق بمزيد من الحيرة والقلق وهذه ولا ريب دعوة الزامية للتدمير الشامل، ولا ريب ان الوجودية ظاهرة زمنية عابرة لا يلبث الانسان ان يتخطاها وهي كما يقول جاك برك ليست روحاً وهي فلسفة عدمية سلبية من الفها الى ياءها، تود ان تقتل في الانسان التفكير وتشل القدرة على استعمال العقل والمنطق وتقول اذا اردت خلاصاً فأقتل في نفسك العقل والمنطق، هذا فضلاً عن انكار القيم الاخلاقية والدين.
وابرز نتائج الوجودية القلق والتمزق والخوف من المجهول والرعب، ولا تقع النفس البشرية في هوة القلق والتمزق الا اذا عاشت الصراع بين الروح والمادة والا اذا انفصل الانسان عن اليقين الذي يملأ روحه وعقله بالثقة والامان، ان الوجودية قد عزلت الانسان عن كل ركيزة يمكن ان تحميه او تطمئن نفسه او تملأه بالثقة، هذه الركيزة في الواقع لا تأتي الا من مصدر واحد هو الدين، من هنا كان انكار الدين منطلقاً للعدمية التي تفجر كل انواع الخوف والرعب والقلق. ان نظرة الاسلام الى الانسان هي نظرة التكامل بين الرغائب والاشواق بين المادة والروح بيد ان النظرة المادية الخالصة من شأنها ان تخلق سمة التشاؤم والشك الذي يحس معه الانسان انه وحيد وشقي وغريب في عالم موحش مجهول. وهذا معنى التمزق والضياع اما حين يحل في النفس الايمان بالله تعالى فانما تحل معه الثقة والتفاؤل. ان الايمان بالله تبارك وتعالى قوة دافعة تمنح الامل وتمنع اليأس وتبعث الثقة وتدعو الى المعاودة في حالة الاخفاق.
اجل، انه منذ انعزلت المجتمعات الغربية عن الدين وعجزت عن الوصول الى الدين الحق حلقت فيها روح اليأس والقلق والتمزق وعجزت الايدلوجيات المختلفة عن ان تحقق السعادة للانسان. ان الانسان الذي صنعه الله تعالى من قبضة الطين ونفخة الروح لا يمكن تفريغ كيانه من مضمونه ولا يمكن النظر اليه على انه الهيكل البشري الخالي من الروح والوجدان والبصيرة.
من هنا بدت المفاهيم الغربية حول الانسان غريبة عنا وعن قيمنا وعن مجتمعنا كل الغرابة لانها ثمرة من الثمرات المرة التي انتجتها تحديات مجتمع معين في ظروف معينة. ان الانسان الغربي انما يمر بأزمة خطيرة فهو ضحية الصراع الذي اعلا من شأن المادة وانكر القيمة الروحية والدينية والاخلاقية وما من خفاء في ان القلق النفسي يجتاح الانسان الغربي المعاصر بسبب مفاهيم الوجودية انما هو قضاء ما حق على الوجود الانساني الحقيقي لذلك فأن دعوة الوجودية الى الانطلاق لتحقيق اللذة على انها الحل الوحيد، هذا الانطلاق لا يحقق التكامل او الطمأنينة او السكينة النفسية بل سيزيد الانسان نهماً واضطراباً حتى يصبح ضحية لمطلب التهم ما يكاد يتم اشباعه حتى يعود الى الالحاح على صاحبه. ان الامتلاء الذي تلوح لنا به اللذة لا يهيأ ابداً الشعور بالطمأنينة او الاحساس بالسلم والامان وهيهات ان يشبع الامتلاء نهم الارادة البشرية.
ان الانسان اذا قطع صلته بالله تعالى وبالبعث والجزاء فأنه يعيش مرارة اليأس والظلام ومدافعة المصير المحتوم الذي ينتظر الجميع دون جدوى، فليست هناك من فرجة امل ولارجاء ولا ضياء وهو يغدو شبيهاً بما تحكيه الاسطورة اليونانية الوثنية القديمة عن سيزيف المسكين بطل قصة العبث الذي حكم عليه ان يحمل صخرة ثقيلة ليصعد بها الى قمة الجبل ولكنها سرعان ما تهوي الى قرار سيحق فيعيد سيزيف الكرة من جديد ومن جديد ومن جديد في عذاب دائم مستمر. اما المسلم فحياته غنية خصبة ثرية مليئة بالثقة والتفاؤل والامل في الغد والبعث والحياة كلها لانه ينطلق من رسالة واضحة الى هدف محدد يضيئه نور الايمان والثقة بالله تعالى الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وهو ارحم الراحمين. وهكذا تتجدد في الوجودية فلسفة العدم التي عرفتها الفلسفات المادية قبل الاسلام حيث كان الانسان يبحث عن الخلود فيصدمه الموت ويحاول ان يتوحد مع ذاته فتسحقه المتناقضات ولم يكن ثمة امل الا في الدين، فلما جاء الاسلام برسالته الهادية كان نصراً كبيراً للانسان المعذب على مأساته في كل زمان ومكان، ان الاسلام بشر الانسان بالخلود عندما علمه انه على موعد مع الله تعالى وانه سوف يبعث بعد موته ليحاسب على مدى فاعليته في الحياة الدنيا، لكن فهم اصحاب المذهب الوجودي للدين هو فهم زائف بعيد عن الحقيقة بل فهم اعوج مستمد من الاساطير الاغريقية ومن بعض تفسيرات الغرب للدين وهي تفسيرات باطلة لأن الفكر الغربي قد فهم العلاقة بين الله تعالى والانسان فهماً غير صحيح، تداخلت فيه الرؤية الوثنية القديمة والرؤية الكنيسة التي تعتقد بالنظرية الخطيئة الاولى التي يتحمل الابناء والاجيال جريرتها دونما ذنب ارتكبوه مما اساء الى فهم العلاقة بين الله سبحانه وتعالى والانسان.
*******