البث المباشر

الأساس المنسي لبناء الادب العربي -۱

الأربعاء 30 يناير 2019 - 11:49 بتوقيت طهران

الحلقة 156

لا ريب ان خصائص الادب الذي نشأ في البيئة العربية تميزه عن الاداب الاخرى شرقيها وغربيها، ونحن نعرف ان هذه الخصائص ترجع الى البيئة التي نشأ فيها هذا الادب والى الفكر الذي تشكل في اطاره والاصول التي استمد منها وجوده والتحديات التي واجهته في مسيره الطويل، ولا ريب ايضاً ان ادب اي امة مرتبط دائماً بلغتها فهو في المصطلح الفني ادب لغة وادب اي امة هو نتاج عواطفها ومشاعرها وعقولها وهو عصارة مزاجها النفسي وطابع روحها، وهو في نفس الوقت مرتبط بهذه الامة ارضها وسماءها وقيمها وتقاليدها،احداثها ومجتمعاتها، فهو خلاصة وجهة نظرها في الحياة مستمدة من داخلها ومن مكوناتها الذاتية، من هنا ينبع التفاوت بين ادب امة وادب امة اخرى ومن هنا كان ايضاً ادب امة وادب لغة لانه يستمد وجوده من مشاعر هذه الامة وسماتها الروحية والعقلية والنفسية والادب الاصيل عالمي بطبعه من حيث نزعته الانسانية لا من حيث انصهاره في نموذج واحد والطابع الانساني للادب لا يخرجه عن ذاتيته كأدب امة خاصة ولا بد مجه في غيره من الادب تحت ما يسمى بعالمية الادب.
والادب الغربي ادب امة عريقة وادب لغة عريقة ايضاً وهو ادب لم يتشكل في صورته الحقيقية الا منذ ظهور الاسلام الذي جمع العرب في الجزيرة العربية فكان عاملاً في تحويل القبائل الى امة تامة. وبنزول القرآن الكريم وضحت صورة هذا الادب وكان العامل الاعظم في ظهور فنونه وعلومه ومناهجه.
واللغة العربية سابقة على الاسلام وهي عماد وجود المتكلمين بها وهي لغة تطورت ونمت خلال مئات السنين حتى وصلت الى صورتها التي عرفت بها قبيل الاسلام وان ظلت لها لهجاتها المختلفة المتعددة فلما نزل القرآن انصهرت اللغة العربية في لهجة واحدة ثم اعطاها القرآن كما اعطى الادب العربي هذا البيان المعجز الفائق الذي فهمه العرب واعجبوا به وعجزوا في نفس الوقت عن الاتيان بمثله.
كان العرب قبل الاسلام مجموعة من القبائل المختلفة المتصارعة التي لم تجتمع تحت اي لواء سوى الاسلام وكانت ذا قيم وتقاليد ولها طابعها الذي اعطاه اياها مكانها في هذه الجزيرة شبه المعزول عن حضارة العالم، حضارتي الفرس والروم، هذا الطابع البدوي الخاص اهلها لتتلقى رسالة الاسلام الانسانية فقد حماها وجودها المنعزل عن ان تذوب في متارس الحضارات وانحلالها ومكنها من تنمية بقايا الحنيفية لدين ابراهيم (عليه السلام) التي تمثل ما كان لدى العرب في الجاهلية من قيم اخلاقية وان خالطها كثير من فساد عادات الثأر والشرك وعبادة الاصنام والعصبية والاستعلاء والتفاخر، فلما جاء الاسلام حرر هذه النفس من جاهليتها وصاغ حياتها صياغة جديدة واعطاها مفهوماً متجدداً وهو مفهوم التوحيد. هذه العوامل منحت ادب اللغة العربية مزية خاصة وطبعته على نحو يختلف عن اداب الامم الاخرى فظهرت فنون لم توجد في الاداب الاخرى واختفت فنون وجدت في الاداب الاخرى وظهور هذه الفنون واختفاء تلك الاخرى منه لا ينقص من قدره مادام يصدر عن اعماق روحه الطبيعية ومقوماته الخالصة، من هنا فأن هذا الادب لا يدرس على ضوء مناهج وضعت لآداب اخرى ذلك ان اساليب النقد والبحث انما توضع للاداب بعد ظهور تلك الاداب ولذلك فهي مستمدة منها وليس العكس.
مذاهب الادب التي يحاول النقاد محاكمة الادب العربي عليها هي في جملتها مذاهب غربية وضعت مسمياتها ومناهجها بعد قيام ظواهرها في الاداب الاوروبية وهي في الحق ليست مذاهب بل هي اسماء وعصور كالكلاسيكية والرومانسية وغيرها وهي تتصل في مجموعها بتاريخ الامم التي وضعت هذه المذاهب، فلماذا تنقل لتكون قوانين يخضع لها غيرها من الاداب التي تختلف من حيث تكوينها وطابعها وتاريخها وبيئتها ومظاهر حياتها عن هذه الآداب، هذا من ناحية النقد اما من ناحية اصول الادب نفسه اي اصول الشعر والنثر والقصص والتراجم فلماذا يخضع الادب العربي لقواعد مستمدة من اداب تختلف عن الادب العربي مزاجاً وشكلاً وطابعاً؟ وهل يمكن ان يقال ان اصولاً يضعها الاوروبيون لتخضع لها الاداب في العالم كله واذا قالوا هم ذلك فهل نقبل نحن ذلك؟ والادب العربي عريق الجذور وسابق لهذه الاداب الاوربية في النشأة والظهور، هل يقبل ان يخضع هذا الادب لقواعد غريبة عنه في حين يشكل في وجوده خلال اربعة عشر قرناً قواعد وقيماً مستمدة من جوهره وسماته؟ ان اختلاف المصادر والمنابع بين الادب العربي والاداب الغربية يجعل من المسير خضوع الادبين لمقاييس واحدة او لقوانين واحدة والمعروف ان الآداب الغربية جميعاً تستمد مصادرها من الادب الهيليني والفلسفة اليونانية والحضارة الرومانية فقد اتجه الادب الاوروبي الحديث منذ اول ظهوره في عصر النهضة الى هذه المنابع وربط نفسه بها وجعلها اساساً ثابتاً لمختلف وجوهات نظره ومفاهيمه وقيمه واتخذ من النظرات التي قدمها ارسطو في الادب والنقد والشعر وغيره اساساً له، ولا ريب ان هذه الحصيلة التاريخية الضخمة وهذا التراث الاغريقي الروماني المسيحي يقوم على اساس يختلف اختلافاً بيناً عن الاساس الذي يقوم عليه الادب العربي الذي استمد مصدره اساساً من القرآن الكريم والاسلام والقيم التي كانت لدى العرب، الادب الذي يستمد وجوده من التوحيد والنبوة والنظر الى الكون بمنظار التفاؤل والايمان هو ما كونته طبيعة البيئة العربية بالاضافة الى ما صاغه الاسلام من عقيدة وهو يختلف عن الادب الذي يستمد وجوده من بيئة تتصارع فيها الالهة ويقتل بعضها بعضاً وتصارع الانسان ويصرعها الانسان ويستمد وجوده ايضاً من اجواء ضبابية تقاسي من جو الجبال الصخرية وظلام الليالي الطويلة وضلال الحياة الغامضة وغلبة السماء المغطاة بالسحب.
هذا الاختلاف يجعل من المستحيل التقاء ادبي العرب والغرب في وجهة واحدة او مشاعر واحدة ومن هنا كان من المستحيل ان يخضع كلا الادبين لقوانين واحدة ومناهج في الصياغة والنقد والبيان والمضمون واحدة، في بيئة الجزيرة العربية حيث يطلع النهار فيملأ الفضاء بالضوء الساطع والشمس المشرقة ويلف الكون نور وضياء فأن النفس الانسانية لا شك تواجه الحياة في الضياء والنور ومن ثم فأن الادب الذي تنتجه لا يشكل صور الضباب والضلال والرمز والقفة الخيالية والوهمية، هذا هو اهم اوجه الاختلاف بين الادب العربي والغربي وهو اختلاف عميق اشد العمق متصل بالنفس الانسانية‌ مولدة الادب وباعثته، ومن هنا يكون خضوع الادب العربي لقوانين وقواعد قامت اساساً على حصيلة الادب الاوروبي وفنونه امراً شديد الخطر وبعيد الاثر.

*******

 

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة