منذ القديم احتفظت الحكايات الرمزية على لسان الحيوان بشعبيتها في الشرق بوجه عام، وعندما تذكر حكايات الحيوان تقفز كليلة ودمنة لابن المقفع الى ذهن المستمع مع غيرها من الحكايات النثرية والشعرية التي يحفل يها التراث الادبي والشعبي منذ عصوره الاولى حتى احمد شوقي شاعر العصر الحديث.
وربما خطر على البال ايضاً احد الينابيع المباشرة او غير المباشرة لهذا النوع من ادب الحكمة والتسلية الذي كان وما يزال يحظى بحب الرجل العادي واستمتاعه بما يتضمنه من سخرية ونقد اجتماعي لاذع، وهذا الموضوع هو المجموعة العجيبة من الحكايات المروية على لسان الحيوان والمنسوبة الى العبد اليوناني الذي نسجت الاساطير حول حياته وموته وهو ايزوبوس الذي عاش في القرن السادس قبل الميلاد في ساموس والقي به من حالق في دلفي.
ولا يكاد يخلو احد من كتاب هذا النوع من القصص الرمزي من التأثر بأيزوبوس ومن استلهامه سواء في العصور القديمة نفسها مثل الشاعر الاغريقي بادريوس من القرن الثاني الميلادي والشاعر الروماني فايدروس في القرن الاول او في العصور الحديثة مثل لوثر زعيم حركة الاصلاح الديني في اوربا ولا فنتين الذي كان اشهر من استوحاه واعاد صياغته وجيلوت وليسينك من ادباء الالمان.
والواقع ان مثل هذه الحكايات عمرها اقدم من ابن المقفع ومن ايزوبوس بعشرات القرون وانها عرفت على السنة السومريين ودون بعضها على الرقم الطينية لملوك سلالة اور الثالثة خلال القرن الاخير من الالف الثالث قبل الميلاد لكي يستمعوا اليها في حفلات البلاط واحتفالاته بالمناسبات والاعياد المختلفة ولا ريب ان هذا النوع من الحكايات قد عرفته اللغة الاكدية ايضاً وشاع على السنة العامة والبسطاء من الناس في العهود البابلية فقد احتوت مجموعة متأخرة من الامثال البابلية على نماذج منها واحتل احدها منزلة مرموقة في الادب البابلي المأثور وربما يرجع خلو الادب البابلي التقليدي من هذه الحكايات الى السبب نفسه الذي يعلل به الباحثون ندرة الامثال الشعبية فيه وهو ان علماء العصر الكشي الذي وصلت منه معظم النصوص الادبية قد اضطهدوا هذا الادب الشفاهي التي انتشر على السنة العامة ولم يروا انه يستحق التدوين والتسجيل.
ومع ذلك فلم يخل الادب البابلي التقليدي من نوع معين من الحكاية الرمزية التي تختلف كل الاختلاف عن نمط الحكاية التقليدية التي جاءت من ايزوبوس ومن حذا حذوة، ذلك هو ادب المناظرة الذي يسجل مبارزة كلامية يتبارى فيها اثنان من البشر او من مظاهر الطبيعة او النبات او المعدن او الحرف والمهن اليدوية وادوات الزرع والصنع او حتى الالهة في تصورهم الموهوم، كل ذلك في محاولة لاثبات تفوق احد الطرفين على الآخر وبيان مدى منفعته للانسان عامة او للملك خاصة وهكذا نشأت تلك المناظرات الطريقة بين الصيف والشتاء والطير والسمك والشجر والقصب والفضة والنحاس والفأس والمحراث والهة الماشية والهة الحنطة.
النوع الادبي الذي يعرف بادب المناظرة ابتدعه السومريون ودونه شعراً وقد مهدوا لكل مناظرة بمقدمة رمزية قصيرة يليها تمهيد للدخول في تفاصيل الموضوع الذي يبدأه احد المتناظرين بالحديث عن نفسه وذكر ما يمتاز به على خصمه ويرد النظير بالمثل ويستمر الطرفان في اخذ ورد حتى يضطرا للاحتكام الى طرف ثالث فيصدر حكمه الفصل في النزاع بتفضيل احد الطرفين على الاخر وينزل الطرفان على حكمه ينتهي الحضام ويسود الوئام. وقد نسج الادب البابلي على منوال الادب السومري فيما يتصل بهذه الحكايات الرمزية فهي تبدأ بالتمهيد الذي اختصر اختصاراً شديداً.
اضافة الى الحكايات الرمزية على لسان الحيوان ومظاهر الطبيعة ظهر في الحضارات القديمة في بلاد ما بين النهرين نوع ادبي اخر هو الحكم والامثال والاقوال السائرة وقد كانت شعوب سومر وبابل وآشور تمتلك رصيداً غنياً من الحكم والامثال والطرائف والاقوال السائرة التي كانت تنتقل انتقالاً حراً من فم الى فم ومن عصر الى عصر ويبدو ان ما جاء عن السومريين في هذا الصدد هو اقدم مما ورد عن التراث الاشوري والبابلي وربما تكون قد دارت على الالسن كثيراً قبل التفكير بتدونيها على الرقم والالواح الطينية في اوائل الالف الثاني قبل الميلاد.
والحكم والامثال المدونة بالسومرية شديدة التنوع في مادتها فبعضها حكم وامثال بالمعنى التقليدي لمفهوم هاتين اللفظتين اذ يتوفر فيها الايجاز والتكثيف والبلاغة والمفارقة الذكية، وبعضها الآخر قد دخلت فيه حكايات وطرائف قصيرة ومقتطفات من نصوص واعمال ادبية وحكايات موجزة على لسان الحيوان ومواد اخرى لم يعرف الباحثون حقيقتها بعد.
ولما كانت هذه الحكم والامثال في مجموعها ما تزال موضع الدراسة والتحقيق والنشر فأن الحكم النهائي عليها هو امر سابق لا وانه كما ان الصعوبات التي تواجه ترجمتها وشرح معانيها وفهم الكثير من كلماتها هي صعوبات لا يستهان بها وخاصة حين يتعلق الامر بالنصوص السومرية التي لم يكشف الحجاب بعد عن غوامضها.
وهذه صور من الامثال والحكم والاقوال المتداولة في هذا الادب نعرضها لذى ما توصل اليه اولئك القدماء من حكمة الحياة كخلاصات لتجاربهم في احياة اليومية.
من هذه الامثال: ذهب ليصطاد الطيور دون فخ فلم يصطد شيئاً، وفي مثل آخر ان كنت قد آذيت صديقك فكيف يا ترى ستفعل مع عدوك، وفي آخر ليس ثراءك سنداً لك بل الهك هو سندك، ونقرأ ايضاً مثل هذا التعبير الحكمي ان شعباً بغير حاكم مثل غنم بغير راعي، ومثل هذا التعبير الدال على حكمة اخلاقية، لا ترتكب جريمة ولن يصل الحزن الى قلبك، ومثله قولهم لا تقترف شراً لا نعرف سوء الحظ والاسف المقيم، ونقرأ هذه العبارة المثلية، لدت عقرب رجلاً فماذا اقادت من ذلك، تسبب واشي في موت رجل فماذا كسب من فعله، وهذا المثل الذي يصور النكدوالبؤس وسؤ الحظ يقول انا اعيش في بيت من القار والطوب المحروق ومع ذلك تسقط على رأسي كتلة طين، ونقرأ هذا المثل ان العدو لا يذهب عن ابواب مدينة اسلحتها غير قوية ونمر على هذا القول من يواجه محاربين اشداء لهم هدف واحد. والفاكهة التي تنضج قبل الاوان تجلب الحزن واخيراً ان قناة الري التي تجري في اتجاه الريح تجلب الماء الوفير.
*******