النظرية السياسية الاستبدادية تظهر في مظاهر شتى اسوءها وارذلها نظام الحكم الفردي المطلق الذي يعتمد الطغيان والتجبر والاستكبار، ويبلغ الطاغية اسفل دركات الظلم والجور والعدوان حين يتزيى بزي الدين ويلبس عباءته، وقد رأينا في لقاءنا الماضي كيف يعبر الحاكم الطاغية عن تلبسه بالدين وكيف يخادع الجماهير حين ينسب سلطته الى الله جل جلاله، رأينا جيمس الاول ملك بريطانيا فرهواً بقوله: «اننا نحن الملوك نجلس على عرش الله في الارض» ويمول المنصور الدوانيقي تاني ملوك العباسيين فيقول:«ايها الناس انما انا سلطان الله في ارضه» ومن بعده جاء لويس الخامس عشر الفرنسي ليقول للناس «اننا لن نتلقى التاج الا من الله وسلطة سن القوانين والتشريع هي من اختصاصنا بلا تبعة ولا شريك».
وكان اليهود من اوائل من حاول اقامة دولة بأسم الدين بأعتبارهم كما يدعون انهم اقرب الشعوب الى الله، يدعون زوراً ان مملكة اسرائيل يحكمها الله مباشرة فهو الذي اصطفى اليهود ليكونوا شعب الرب.
ويرى الكاتب البريطاني بيرت راندراسل ان محاولة بعض المسيحيين اقامة دولة مسيحية انما هي محاولة لمحاكاة الدولة اليهودية وكان هذا منطلق الملوك في العصور الوسطى وان ارتداء عباءة الدين او ادعاء انهم يستمدون سلطانهم من الله كان تبريراً لسلطتهم المطلقة واحياءاً للدولة اليهودية، في حين كان النهج الذي سار عليه النصارى الاوائل هو انفصال الحياة الارضية عن الحياة الروحية انفصالاً تاماً واعتبرت الحياة هنا مجموعة من المحن والاعباء التي لابد من تجرعها والصبر عليها تحقيقاً للمعنى الروحي، ومن هذه المحن التي يمر بها المرء محنة حكم الطاغية، وقد صدرت عن القديس بولس عبارات دعم بها الطغاة سلطتهم لانها تدعو العبيد الى تحمل العبودية وكان يدعو ايضاً الى طاعة السلطة الدينية ويراها صادرة من الله ومن جملتها سلطة الطواغيت قال: لتخضع كل نفس للسلاطين المتغلبين لانه ليس سلطان الا من الله والسلاطين مرتبون من الله وهكذا يحث بولس المواطنين على الخضوع للسلطة العليا في المجتمع ومن يعترض انما يعترض على مشيئة الله تعالى.
وتلك الفكرة ذاتها قال بها القديس بطرس في نصه اخضعوا لكل ترتيب بشري من اجل الرب، اكرموا الجميع، اكرموا الملك.
ومن هنا ظهر المبدأ الذي حكم به طغاة اوروبا واستغله الملوك المستبدون احقاباً طويلة وهو ان كل سلطة فهي مستمدة من الله وهكذا ظهرت نظرية الحق الالهي المقدس للملوك على رغم ان المسيحيت خطت بعد ذلك خطوة مهمة جداً عندما نفت بشدة الطبيعة الالهية للحاكم واعتبرته بشراً وان كان بشراً يتمتع بسلطان من الله وهو سلطان يتحتم الخضوع له على كل حال وتجنب معارضته وارجاء الامر كله الى الله ليحاسب الملوك في الاخرة، اما في هذه الدنيا فالسمع والطاعة والخضوع والاستسلام، ومن هنا كان على الشعوب ان ترضخ لطغيان الحكام وسلطاتهم غير المحدودة وكان عليها ان تدفع ثمن هذه الفكرة على امتداد خمسة قرون طويلة.
عندما ضعفت الامبراطورية الرومانية لم يعد مقبولاً ان يقال ان الا باطرة يمثلون الله سبحانه وتعالى في ارضه اذ كيف يكون لملك ضعيف ان يستمد السلطة من الله وفي الوقت ذاته تطورت اوضاع الكنيسة وازدادت ممتلكاتها حتى عذت من اكبر ملاك الارض في اوربا كما نمت قوتها في مقابل ضعف الاباطرة، وقد تمخض الوضع بظهور نظرية جديدة تقول ان الحكام انما يستمدون سلطتهم من الله لكنهم يمارسونها بموجب رضى الشعب المسيحي فالله لا يختار الحكام مباشرة وانما يوجه احداث التاريخ والمجتمع توجيهاً بمقتضاه يختار المسيحيون بأنفسهم حكامهم ولما كانوا يرون الكنيسة تمثل المسيحية فلا ان ترضى الكنيسة عن هذا الاختيار وتباركه وهكذا دخلت الكنيسة في ترفاء الشرعية الدينية على الحكم. وقد ظلت هذه النظرية معمولاً بها حتى عصر النهضة الاوربية بل و بعد عصر النهضة وفي عهد بعض الملوك الاقوياء من امثال لويس الرابع عشر في فرنسا الذي كتب يقول «ان سلطة الملوك مستمدة من تفويض الخالق فالله مصدرها وليس الشعب والملوك مسؤولون امام الله وحده عن كيفية استخدامها».
وكان القديس اغسطين في نهاية القرن الرابع الميلادي اقوى الفلاسفة المسيحيين دفاعاً عن مفهوم الطاعة ومن الذين آمنوا بأن كل سلطة ارضية قائمة بأمر من الله، فمن هنا فأن المسيحية تدعم الوطنية ولا تهدمها عندما تدعو الى طاعة السلطة المدينة والخضوع للقوانين وتعتبر مقاومة هذه القوانين تحدياً للارادة الالهية ولترتيب الله للممالك والملوك ذلك ان المجتمع المدني الذي تلجأ فيه الحكومة الى العنف والقوة هو فيما يرى اغسطن مجتمع استشرى فيه الشر والخطايا التي يقترفها المواطنون فيكون اسلوب العنف السلطوي اذن دواءً اسماوياً لعلاج الخطيئة وتلك رحمة تخلص العالم من الشرور، كما يرى القديس بولس الذي لا يفتأ اغسطن يشير اليه بأستمرار في هذا السياق وحسب تعبيره ان الحاكم المستبد لا يحمل السيف عبثاُ اذ هو خادم الله منتقم ممن يفعل الشر.
وهكذا فأن هذا الرأي الاساسي يرى ان الله جل جلاله هو الذي يسلط الحاكم الظالم لينتقم من الاشرار واجمالاً فأن طاعة الحاكم واجبة سواء أكان هذا الحاكم صالحاً او فاسداً استناداً الى ما اوردناه آنفاً من عبارة القديس بولس كما ان المؤمن من الناحية الاخرى عليه ان يتحمل الظلم وهو بذلك انما يدافع عن المواقع المسيحية المسالمة التي ترفض مقابلة الشر بالشر.
هكذا يا اخي الكريم نلاحظ تأثر المفكرين المسيحيين بالفكرة اليهودية القديمة التي تحبذ قيام دولة دينية يحكمها الاله مباشرة وتلاحظ النظر الى الحاكم على انه سيف الله ينتقم به وثالث الملاحظات هي ضرورة تحمل الناس لحكم الحاكم واخيراً فأن الاستبداد يمكن ان يفسر على انه رحمة من السماء في مقابل تفاقم الشرور، وقد استمرت الفكرة المسيحية الاساسية كما هي طيلة العصور الوسطى فلم يتأثر واجب الطاعة والخضوع للسلطة القائمة ادنى تأثر بنمو الكنيسة وتزايد سلطانها.
ومن الحقائق اللافتة للنظر التي تثبت اتخاذ رجال الكنيسة في ذلك العصر موقفاً غير معارض للحكومة المدينة وامتناعهم عن محاولة الحد من نفوذها ان اقوى الحجج التي جاءت معاضدة لواجب احترام سلطة الحكام الدنيويين قد تضمنتها كتابات القديس جري جوري في القرن السادس الميلادي الذي كان يرى ان من حق الحاكم السيء والطاغية الجائر ان يذعن الناس لطاعته بل لابد ان تكون هذه الطاعته صامتة اي ان على الرعايا الامتناع عن محاولة الحكم على حياة حكامهم ونقدها او مناقشتهم الحساب، يقول لا ينبغي ان تكون اعمال الحكام مورداً للطعن والترجيح بسيف اللسان حتى لو ثبت ان هذه الاعمال تستحق اللوم ومع ذلك فأن اقل ما ينبغي اذا انزلق اللسان لاستنكار اعمالهم ان يتجه القلب في اسف وخشوع الى الندم والتوبة والاستغفار التماساً لعفو السلطة العظمى التي ما كان الحاكم الا ظلها على الارض وهكذا يكون جري جوري ذا افكار موغلة في تعزيز الظلم والطغيان وموغلة في احتفار انسانية الانسان في حين ظهر بعدئذ مفكرون نصارى آخرون مثل يوحنا السلسبوري الذي دافع بصراحة عن مبدأ قتل الحاكم المستبد في حين اعلن القديس توما الاكويني بعده بقرن ونصف حرمة قتل الحاكم الطاغية.
*******