البث المباشر

عن شعر المزاد الحسيني

الخميس 24 يناير 2019 - 20:40 بتوقيت طهران

الحلقة 66

منذ استباحت الجاهلية الاموية دماء اهل البيت (عليهم السلام) في يوم عاشوراء وذبحت سيد شباب اهل الجنة الامام الحسين (صلوات الله عليه) غدا مدفنه المقدس مهوى افئدة المؤمنين من اصحاب البصائر والهمم يقصدونه افراداً وموجات باكين متفجعين ممتلئين غضباً ثورياً توحيدياً عظيماً وهنالك يمارسون مراسم الزيارة التي لا نجد لها بين الزيارات من نظير، وقد رافقت حركة الزيارة الحسينية في التاريخ حركة شعرية تعبر عنها وتحكي المشاعر الايمانية المتفجعة التي تموج في اعماق الزائرين والشعر كان الى جوار كونه تعبيراً ادبياً عن مكنون الضمير وسيلة من اهم الوسائل الاعلامية ومن افعل انواع الكلمة المتنقلة، كان الشعر لوناً من الصحافة الادبية السياسية العقائدية تصبح مرة علنية جهيرة الصوت وتمسي مرة اخرى صحافة سرية تتداولها الايدي في الخفاء، مع ما يزاول تداولها هذا من مخاطر ومحاذير، وكم من قصيدة حسينية الاتجاه قد حكم على قائلها بالموت اولقي الملاحقة والمطاردة والتشريد وهذا وحده كافي للكشف عن خطر الشارع الحسيني وعن قيمته الكبيرة في تحريك الجماهير لمقاومة الباطل والظلم ومن يستقرأ موضوع الزيارة والمزار في ديوان الشعر الحسيني تلفته ظواهر جديرة بالدرس وهي ظواهر تبسط زميناً منذ سليمان بن قتة اول من قال شعراً في زيارة الامام الشهيد الى عصرنا الحاضر.
الظاهرة الاولى في شعر المزار الحسيني هي قلة التعبير الشعري عن الزيارة ووفرته فيما اعقب من القرون اذ كثر التعبير عن هذا الموضوع في الشعر المتأخر زميناً كثرة بينة، اتخذت موقعاً بارزاً في ديوان الشعر الحسيني ولا نكاد نعثر في شعر القرون الاولى الا على نصوص نزرة تكون الزيارة فيها على نحو المرور العابر والالمام السريع يعبر عنها الشاعر بمثل قوله: مررت، كما فعل سليمان بن فتة الذي اجتاز بأرض كربلاء بعد مصرع ابي عبد الله الحسين (عليه السلام) بثلاثة ايام ومثل قول عقبة بن عمار السهمي في اواخر القرن الاول:

مررت على قبر الحسين بكربلا

ففاض عليه من دموعي غزيرها

ومثل قول السيد الحميري في القرن الثاني:

امرر على جدث الحسين وقل لا عظمه الزكية

يا اعظماً لازلت من وطفاء ساكبة روية

مالذ عيش بعد رضك بالجياد الاعوجية

قير تضمن طيباً آباءه خير البرية

فأذا مررت بقبره فأطل به وقف المطية

وابك المطهر للمطهر والمطهرة الزكية

ونجد شاعراً كالشافعي لا يصرح بالزيارة وقصد المزار وانما يبحث عن من يحمل رسالة منه الى الامام الشهيد في موضع مصرعه في كربلاء:

من مبلغ مني الحسين رسالة

وان كرهتها انفس وقلوب

ذبيح بلا جرم كأن قميصه

صبيغ بماء الارجوان خضيب

حتى دعبل بن علي الخزاعي الشاعر الملتزم في القرن الثالث لم يصور في شعره زيارة سيد الشهداء (عليه السلام) بل ترك في شعره وثيقة تاريخية تنص على ندرة زيارة قبور اهل البيت عامة‌ وقبر الامام الحسين خاصة، قال دعبل عن هذه القبور المقدسة:

قليلة زوار سوى ان زواراً

من الضيغ وعقبان واللزبات

وكانت الحرب السلطوية الجاهلية المعلنة على اهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وراء هذه القلة في الزيارة فما كانت الا في اوقات متناثرة وحتى الرسالة التي بعث بها الشافعي الى كربلاء يعرف الشافعي انها كرهتها انفس وقلوب.
وكان دافع آخر يعتمل في نفس دعبل الخزاعي الى جوار الضغط السياسي والامني الذي يعرف عامة الناس عن مزار الطف وهذا الدافع هو ما يجده دعبل في داخله من فرط الوجد وشدة اللوعة والاحساس بالثكل اذ كان يخشى ان تغتاله اشواقه وتستبد به الهموم والاشجان:

فأما الممضات التي لست بالغاً

مبالغها مني بكنه صفات

قبور بجنب النهر من ارض كربلا

معرسهم فيها بشط فرات

توافوا عطاشا بالفرات فليتني

توفيت فيهم قبل حين وفاة

الى الله اشكو لوعة عن ذكرهم

سقتني بكأس الثكل والفضعات

اخاف ان ازدارهم فتشوقني

مصراعهم بالجزع فالنخلات

فالملاحظ ايها الاخوة هو دعاء قديم في الشعر العربي يراد به استنزال الخيرات والبركات على منازل الاحبة الذين ضعن عنها اهلها وطواهم الزمان وقد مر في ابيات السيد الحميري انفاً ما يدل على هذه الدعوات بالري والسقيا ونظيرها قول القاسم بن يوسف الكاتب في نهاية القرن الثاني:

سلم على قبر الحسين وقل له

صلى الله عليك من قبر

وسقاك صوب الغاديات ولا

زالت عليك روائح تسر

والى جوار الدعوات بالري والمطر تبدو الصلوات من معاني الدعاء بالخير والرحمة والخصوبة والنماء وقد سبق الى هذا دعبل في قوله:

سقا الله اجداثاً على ارض كربلا

مرابيع امطار من المزنات

وصلى على روح الحسين حبيبه

قتيلاً لدى النهرين بالغلوات

وقد توارد الشعراء اصحاب الولاء لاهل البيت (عليهم السلام) على قصد المزار وعبروا عنه بتعابير صريحة وهذا بين في شعر الصنوبري وابن حماد العبدي والشريف الرضي ومهيار الديلمي في القرنين الرابع والخامس ثم كثر ذكر الزيارة فيما بعدهم من القرون على السنة عدد كبير من الشعراء الى يومنا هذا.
الظاهرة الاخرى في ديوان الشعر الحسيني فيما يتصل بالمزار هي ان الشعر كان يدعو غيره ايضاً الى الزيارة وهذه الدعوة الى قصد ارض الحسين (عليه السلام) في كربلاء هي اما ان تكون مقصودة من الشاعر قصداً يبغي من وراءه حث الاخرين على الزيارة‌ او انها جاءت امتداداً للتقليد الشعري القديم لمخاطبة الشاعر لمجهول او مجهولين يدعوهم اليها الى الوقوف على ديار الراحلين والسلام على اطلال منازلهم كما مر في قول السيد الحميري:

امور على جدث الحسين

وقول القاسم بن يوسف الكاتب

سلم على قبر الحسين وقل له

صلى الله عليك من قبر

وقال الصنوبري يخاطب من مشى تلقاء المزار والحائر الحسيني في كربلاء:

سر راشداً يا ايها الزائر

ما حار من مقصد الحائر

ما حار من زار امام الهدى

خير مزور زاره الزائر

من جده اطهر جد

ومن ابوه لا شك الاب الطاهر

ومثل قوله في اول قصيدة له: "عوجا على الطف الحنايا"، وغير هذه النصوص كثير ما استمر عليه عدد من الشعراء كتقليد من تقاليد شعر الطف رسخ مع الزمن، ومن اواخر القرن الحادي عشر نقرأ للشيخ احمد البلدي في هذا السياق قوله:

ناد الاحبة ان مررت بدورها

واشهد مطالع نيرات بدورها

انست بهم ارض الطفوف واقفرت

منها الديار وليس غير يسيرها

غربت بعرصة كربلا فأنهض لها

واقر السلام على جناب مزورها

وانثر تربتها الدموع تفجعاً

لقتيلها فوق الثرى وعفيرها

اهيا الاحبة في ملتقانا القادم نتعرف على ظواهر اخرى في شعر المزار الحسيني في كربلاء الدم والشهادة‌ واليقين بأذن الله تعالى.

*******

 

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة