اعزائي المستمعين السلام عليكم. في ضمن قراءتنا للفكر السياسي العالمي من خلال تاريخه وقفنا على ان الحكم الفردي المطلق هو من اسوء اشكال الحكم وقد تعرفنا على صور واسماء له عديدة منها حكم الطاغية والاستبداد والدكتاتورية وغيرها مما يجمع بينها التفرد بالسلطة واللجوء الى الاغراء بالمال والارهاب بالسلاح وخداع الجماهير، كما تعرفنا في لقاء سابق على مساوىء حكم الاغلبية في النظام الديمقراطي بأعتبار هذه الاغلبية تمارس طغياناً وتسلطاً استبدادياً ضد ارادة الاقلية وضد مواقف اصحاب الرأي الحر، ومن عائلة الطغيان هذه انواع اخرى عانى منها تاريخ الانسان على الارض بعد ان هجر منهج الانبياء (عليهم السلام) في حكم العدالة الذي يحقق انسانية الانسان. ان كل تجربة من تجارب الحكم الاستبدادي يعاني منها الانسان ثم يكافح ليخرج منها فأنه يقع في تجربة مماثلة في المضمون وان اختلف الاسم واختلف الظاهر، وبعبارة اخرى ان تاريخ الظلم والاضطهاد والتجبر السياسي على الارض هو تاريخ مفارقة النهج الالهي الذي يمثلة الانبياء والاوصياء فمن ادار ظهره لمصباح النور اتجه قسرياً الى صحراء الظلام.
السلطة المطلقة هو مصطلح آخر من مصطلحات عائلة الطغيان وهو يعني الحكومة التي لا مجدها حد من داخلها وهناك من يفرق بين الحكومة المطلقة والسلطة المطلقة فالسلطة متضمنة في الدولة بأستمرار وقد تحدها سلطات اخرى والحكومة يمكن ان تكون مطلقة حتي بغير استيلاءها على السلطة المطلقة وهي تكون كذلك حين لا تكون هناك كوابح دستورية فلا يخضع اي تصرف لها للنقد او المعارضة من قبل الحكومة، اما الحد الاساسي للحكومة فهو القانون ومن اجل توضيح هذا المعنى عزيزي المستمع نرى في التاريخ الاوربي ان المدافعين عن السلطة المطلقة من امثال هوبز وفيلمر في انجلترا وبودان وبوسيه في فرنسا كانت تحركهم بأستمرار فكرة ان اي حكومة تحتاج الى سيادة، اي اصدار القرارات دون مسائلة ومادامت السيادة نفسها تمارس عن طريق القانون كان السيد الحاكم يمكن نقده هو نفسه عن طريق القانون رغم ان القانون من صنعه، والواقع ان مصطلح السلطة المطلقة لم يعد له معنى محدد الان فهو يستخدم على نحو فضفاض ليدل على حكومات تمارس السلطة بلا مؤسسات نيابية او كوابح دستورية وهو كعضو في عائلة الطغيان المشؤومة قد تم التحاقه بالاسرة ابان القرن التاسع عشر بوساطة البونادرتية او القيصرية، وفي القرن العشرين بوساطة المذهب الشمولي في المانيا وايطاليا وروسيا رغم الفروق الدقيقة بين هذه المذاهب، فنظام السلطة المطلقة يتميز عن الشمولية بأنه لا توجد فيه رقابة شاملة على كل وظائف المجتمع وانما يعبر عن سلطة للحكومة لا تتقيد بقيد.
اخي المستمع الكريم، ظهر مصطلح السلطة المطلقة في فرنسا لاول مرة في حوالي سنة ۱۷۹٦ وفي انجلترا والمانيا نحو سنة ۱۸۳۰ وكان يستخدم في القرن التاسع عشر في الاعم الاغلب على سبيل الازدراء والتحقير وان كان مؤرخو النظرية السياسية ما يزالون يستخدمونه، واذا كان جان بودان هو اكبر منظر لفكرة السيادة فأن الاضطرابات التي حدثت في فرنسا في عصره جعلته يذهب الى ان هناك حاجة ماسة الى تركيز السلطة في دولة مركزية وهو يرى ان الاستقرار السياسي والاجتماعي يقتضي في كل دولة وجود سلطة او سيادة عليا غير محدودة في صلاحياتها ودائمة في ممارستها السلطة ولا تعني السيادة عند بودان سلطة غير محدودة على الاشخاص والممتلكات الخاصة للمواطنين وانما هي تخضع لحدود يفرضها القانون الطبيعي وقانون العرف، لكن لا القانون الطبيعي ولا قانون العرف يمكن فرضهما على الجماعة، فالسيد الحاكم لا يقاوم ولا يخلع من الوجهة القانونية لان السيادة مطلقة ولا يمكن ان تنقسم فأما ان يكون امير الدولة المستقلة حاكماً مطلقاً واما ان يخضع لسلطة اخرى هي التي تكون السيد عندئذ، وقد عرض الاسقف بوسيه المعاصر للملك لويس الرابع عشر صورة لا هويتة من مذهب السلطة المطلق جمع فيها عناصر تقليدية من الكتاب المقدس وتصورات مجازية وتشريعية جديدة وحجباً مستمدة من توماس هوبز وهكذا لفق بوسيه صورة للحاكم ذهب فيها الى ان الله هو الذي يعين الملك ويضعه على العرش لكي يعمل على ازدهار المصلحة العامة وكذلك لحماية الضعفاء من الرعايا.
انه على الرغم من ان مصطلح مذهب السلطة المطلقة قد تمت صباغته في انجلترا في القرن التاسع عشر فأن لفظة المطلق عزيزي المستمع سبق ان نوقشت مناقشات حادة في القرنين السادس عشر والسابع عشر في خلال المناقشات السياسية والقانونية من النظام الملكي المطلق.
وكان السير توماس سمث في القرن السادس عشر هو الذي استخدم لفظة المطلق بمعنى فيه مدح وقدح في الوقت نفسه، فهو يلوم لويس الحادي عشر لانه حول فرنسا من نظام قانوني الى حكومة طغيان وسلطة مطلقة وفي الوقت نفسه يعزو سمث الى البرلمان اكبر واعلى سلطة مطلقة في المملكة، هذا ووقد ادى الغموض في استخدام لفظة المطلق في القرن السابع عشر الى منازعات انفجرت في النهاية في حرب اهلية في انجلترا بين الملك شارل والبرلمان ووحد الكتاب الذين ازروا البرلمان بين السلطة المطلقة وبين الطغيان مرة والاستبداد الشرقي مرة اخرى، ورفضوا تماماً ان يكون للملك اي حق مطلق على المواطنين في طاعته وذهب بعضهم الى النظام الملكي المطلق غير المحدود هو اسوء اشكال الحكم.
وبعد هذا يا اخي المستمع فأن اقوى من نظر للسلطة المطلقة في انجلترا اثنان هما فيلمر وهوبر، اما فيلمر فهو مؤلف كتاب الحكم الابوي الذي ظهر بعد وفاته، والذي دافع فيه عن سلطة الحاكم المطلقة بردها الى الحق الالهي فالمملكة الكاملة في نظره هي التي يحكم فيها الملك كل شيء حسب ارادته الخاصة، ويستحيل ان تحد قوانين العرف او القوانين الوضعية من سلطته المطلقة التي يمارسها الملك من خلال حق الابوة وقد رد نظريته هذه الغربية الى اصل ديني مزعوم يرتبط بآدم ابى البشر وقد افرد جون لوك لهذه النظرية بحتاً جاء عنوانه في بعض المباديء الفاسدة في الحكم خصصه للرد على فيلر ودحض نظريته، اما توماس هوبز فقد كتب التنين في محاولة لبناء المجتمع المستقر الذي لا تطحنه الحروب الاهلية وجعل عقد نوعاً من التنازل من قبل المواطنين للملك، يقول هوبز السيد الحاكم هو المشرع وهو حر في ان يصدر او لا يصدر ما يشاء من قرارات وقوانين مادام يعتقد انها في صالح الجماعة وليس لانسان الحق في الادعاء انه كان ضحية للظلم على يد السيد الحاكم لانه سبق ان فوض هذا السيد الحاكم في اصدار ما يشاء من قرارات ومعنى هذا هو ان الضحية نفسها هي صانعة الظلم الذي اصابها وبالمثل يقول هوبز ليس لاحد من المواطنين معاقبة الحاكم بطريقة قانونية لانه سيكون عندئذ قد عاقب الحاكم على فعل قد خوله هو نفسه ان يقوم به، ومهماً يكن يا اخي الكريم فأن لفظة الحاكم المطلق قد اصبح الآن في ذمة التاريخ وانه لم يعد احد يناقشه في اوروبا سوى المؤرخين ولكنه مع ذلك ما يزال جديراً بالدراسة الفاحصة في دول العالم الثالث التي تقلب على كثير منها اشكال مختلفة من الحكم المطلق في صور متنوعة. تحية يا اخي الكريم في الختام والى اللقاء.
*******