البث المباشر

تراث الفن الاسلامي ومنطقية التضيف الزمني

الأربعاء 23 يناير 2019 - 14:18 بتوقيت طهران

الحلقة 25

السلام عليكم ايها الاصدقاء ورحمة الله.
عرف بعض المعارض والمتاحف الكبرى للفن الاسلامي ترتيباً وتوزيعاً للاثار الفنية المحفوظة فيه لا يقوم على اساس العصور التاريخية السياسية، بعض هذه المتاحف موزعة في عدد من العواصم الغربية وبعض هذه المعارض يعرض الاثار الفنية الاسلامية على طباق الانواع الفنية لا على اعتبار العصور التاريخية التسلطية المتعاقبة، اي انه بدلاً من ان يقسم الاثار على اموية‌ وعباسية وفاطمية واندلسية وما اليها، يقسمها على حسب انواعها فيوزعها الى خط ومخطوطات، خشبيات ومعادن وخزفيات وسجاد وعمارة ومنمنمات وهكذا، من الناحية المتحفية الخالصة يبدو هذا الترتيب اكثر احاطة بالفن الاسلامي من الترتيب التاريخي وخاصة إذا كان الترتيب التاريخي قد اغفل مرحلة ما او كان غير محيط بكل المراحل التاريخية كما هو الحال في معظم المتاحف بما فيها متحفة الفن الاسلامي في القاهرة فهو وان كان اوسع مكان من حيث جمعه لاهم العصور التاريخية التي عرفها تاريخ المسلمين يغفل مراحل عدة عرفت فيها اواسط آسية ازدهاراً فنياً مثيراً ونادراً، من وجهة اخرى يبدو منهج ترتيب الفن الاسلامي وكذلك قراءته على حسب الانواع منهجاً موضوعياً او حلاً علمياً‌ ازاء المواقف الحادة التي تربط بين التاريخ السياسي والتجلي الابداعي او تلك التي تربط بين النزعات القومية والاثار الفنية ولا ريب في ان الفن الاسلامي عندما نقرأه بكونه مجموعة من الانواع الفنية فأن كثيراً من الجدل والنقاش الدائر حول الفن الاسلامي وحول معانيه وخصائصه سيئول الى السقوط ومن هنا يغدو بأمكاننا الحصول على مسافة حيادية نستطيع فيها ان نتحاشا مخاطر الوقوع في القراءة السياسية والتاريخية التي لا تزال الى اليوم مثار جدل وصراع، تقسيم الاثار الفنية الاسلامية الى انواع امر لابد منه حتى بالقياس الى المتاحف التي تأخذ بالمنهج التاريخي، فمتحفة الفن الاسلامي في القاهرة‌ مثلاً تأخذ ايضاً بمنهج الانواع الفنية الى جوار الاخذ بالمنهج القائم على التقسيم التاريخي فهي ايضاً تجمع خشبيات مرحلة معينة في قاعات خاصة بها، لتخصص قاعات اخرى بالمعادن واخرى بالزجاجيات او بالخزفيات ولتقيم جناحاً خاصاً بالنسيج والسجاد لهذه المرحلة‌ التاريخية نفسها وهكذا تفعل مع المراحل التاريخية الاخرى ويسوق الاخذ بالمنهجين اما الفن الاسلامي قد تجلى منذ البدء في انواع فنية شتى وشهد كل عصر ازدهاراً في اكثر من نوع مما يساعد على‌ الجمع او يقلل من التناقض بين المنهجين ان كان ثمة تناقض.
هذه الايجابيات التي يوفرها منهج ترتيب الفن الاسلامي وكذلك قراءته على طباق الانواع الفنية‌ سرعان ما يبدو لنا قلقاً لا يصح الركون اليه عندما تعود في قراءة ما لهذا الفن الى الخصائص ومباديء والى الابداع الذي يستخفي وراء التجلي. ان ترتيب آثار الفن الاسلامي بحسب انواعه لا يصل بنا الى‌ القراءة العميقة التي اشار اليها كل من الغزالي وجلال الدين الرومي حينما اصر على تجاوز ما هو ظاهر وما هو مرئي من هذا الفن لنتأمل ما هو خفي او لقراءة الصورة الباطنة بحسب قول الرومي، إذا كان الفن الاسلامي لا يشهد على عصره ولا حاجة الى ترتيبه على وفاق العصور التاريخية او السياسية او السلطوية الحاكمة‌ فأن الوقوف ازاءه كأنواع فنية سيحجب الصورة الباطنة ‌والصورة‌ غير المرئية لان مثل هذا الوقوف سيدخلنا بالضرورة الى عالم الحرفة والى عالم المادة التي تجلى فيها الفن لا الى الفن كتجلي ابداعي. ان توزيع الاثار الفنية الاسلامية الى سجاد فخط فخزف فخشب فمعدن فرسم انما يجعل القيمة الاولى للمادة ان يجعلوا قيمة ‌للخزف والخشب والصوف والحبر والورق، وما شاكلها من مواد تجلى من خلالها الفن الاسلامي ومن هنا فأننا سنقف ازاء الصناعة اي ازاء‌ سر الحفر على الخشب او سر طبخ الخزف وتلوينه او سر التلوين والتذهيب وما اليها من اسرار رائعة، صحيح ان تلك الاسرار الحرفية هي اسرار عظيمة واسرار فنية ولها مقام خاص في ابداع الفن الاسلامي بيد انها لا ترتفع لتصيح ميداناً فنيا مستقلاً ولا تستطيع ان تشكل طرفات ومنعطفات وصفحات مستقلة يدلي الفن في كل من هذه شهادته الخاصة‌ المميزة، انه علينا يا اخي ان ندرك قبل الوقوع في علمية وحيادية من منهج الترتيب بحسب الانواع الفنية ان الفن الاسلامي نفسه فناً‌ واحدً من حيث الرؤية الجمالية والفلسفية ومن حيث الغاية والوظيفة وهو يتوزع في تجلياته على المعدن او الخزف او الورق او الحجر او الطين فلم تؤثر المادة ‌في الجوهر الفني والتآلف الذي تم هنا بين المادة والجوهر بل هو تآلف يشهد على غنى الجوهر لا على غنى المادة او عكس كثير من فنون الحضارات الاخرى المختلفة، وبمعنى آخر ان الخط على سبيل المثال قد تجلى على الورق وكذلك على الحجر وعلى النحاس وعلى النسيج ولم يتغير الخط الكوفي المتجلي على الورق عن الكوفي المتجلي على النحاس او على الرخام كذلك يمكن القول على الرقش اي عن مبدأ الخط المستقيم والخط المنحي فالرقش هو نفسه كمبدأ وكجمالية وفلسفة سواء اكان سجادة ام قصعة خزف ام صحن نحاس ام باباً لمسجد ام نافذة مقام. ان قراءة عميقة للانواع الفنية التي عرفها الفن الاسلامي لتعود بنا الى مبدأ التوحيد المبدأ الجوهري الذي صدر منه الفن الاسلامي يشهد له ايضاً فالتعدد هنا هو تعدد توحيدي المبدأ، اي الشهادة على كيفية تجلي الواحد تجليات كثيرة، الحق سبحانه وتعالى واحد متعدد التجليات والفن الاسلامي يكرر هذا المبدأ منهجاً فنياً مذهلاً ومثيراً، اي الجمالية والنظامية التي تتحكم بأصول الخط واصول الرقش واصول التذهيب وما ماثلها من اساليب ومن مهن انما هي جمالية ونظامية تتعدد دون ان تثبت جوهرها وخصائصها المبدئية والمنهجية اي دون ان تتغير فالاصول هي واحدة والمبدأ هو المبدأ فلم يغير النحاس خصائص ومباديء الرقش او الخط او الرسم كما تجلى على الورق او على الرخام او على الخشب ومعنى هذا اننا نستطيع ان نظل في المجال الفني نفسه وان كنا ننتقل من مادة الى مادة ومن عنصر الى آخر.
ان جمالية الخط الكوفي او خط الثلث او جمالية الرقش تبقى هي نفسها سواء كان الخط محفوراً على رخام ام منزلاً على نحاس ام مخطوطاً على صفحة مصحف شريف، فالجمالية هنا هي تلك الحال التي يصل اليها المشاهد لهذا الخط او ذاك الرقش اي هي في فعالية الفن وفي صفاته واسماءه في الوقت الذي تتحول فيه البراعة والدقة والاصولية الى مجرد صيغ متعددة لقول كلام واحد ومعنى واحد او للوصول الى حال واحدة.
هذه هي السمات يا اخي التي تنبع من خصائص الفن الاسلامي وهي التي تميزة من سائر الفنون التي نستطيع ازاء بعضها كالفنون اليونانية او الاوربية الحديثة ان نلمح علاقة حميمة متفاعلة‌ بين الفن والمادة التي يتجلى فيها، فاللوحة الزيتية هي غير اللوحة المائية وما توصله اللوحة الزيتية لا تستطيع اللوحة المائية ايصاله وثمة طرفات يشارك في شقها الاثنان كلاهما الفن والمادة التي تشكله، فالنحت على الرخام قاد الفن اليوناني والفن في مطلع النهضة الاوربية الى مراتب مميزة، في الوقت الذي عاد فيه الرسم بالزيت ليحكي تاريخ اوربا الحديث.
انطلاقاً من هذه المقارنات لا نستطيع ان نقرأ الفن الاسلامي بدءاً بأنواعه فالرخام مثلاً لا يستقل هنا بالكلمة والقيمة وكذا سائر الانواع بل على العكس نجد المادة تتهافت في تقديم طواعيتها والفتها لتحقيق المبدأ، المادة التي تجلى فيها الفن الاسلامي تخضع في آخر الامر لوظيفة الفن الاسلامي لا الى الاشتراك في تحقيق جماليته وهي مادة فنية في الوقت نفسه لكون وظيفة الفن الاسلامي جزءاً لا يتجزأ من خصوصياته ولانها جزء من جوهر ابداعه وفلسفته كفن، الفن الاسلامي يؤدي وظيفته حياتية او هو غير مفصول عن الحياة في شتى مظاهرها. والسلام عليكم.

*******

 

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة