السلام عليكم ايها المستمعون الكرام ورحمة الله.
كان الخزف من الاثار الفنية الشهيرة التي خلفها الفن الاسلامي التراثي وقد وصل الينا من الخزف الاسلامي اكثر مما وصل الينا اي نوع آخر من تجليات هذا الفن، امتاز صناع الخزف في ديار الاسلام بتنوع منتجاتهم في الاشكال وفي طرق الزخرفة واساليب التقنية وكانوا على نحو خاص مهارة في طلاء الخزف بالميناء ذات الالوان العديدة وفي صناعة لوحات من القاشاني ذات سطح براق تستعمل لاكساء الجدران، الاساليب الفنية في صناعة الخزف كانت تنتشر بسرعة كبيرة في انحاء العالم الاسلامي مما يشهد على عظم الاقبال على المنتجات الخزفية وعلى جهود الفنانين الخزفيين في الوصول بها الى درجة الاتقان وهكذا كانت اشكال التحف الخزفية واساليبها الفنية وموضوعاتها الزخرفية تنتقل في العالم الاسلامي ويبدو ان هذا الانتقال كان من الشرق الى الغرب في غالب الحالات وان ايران كانت مصدراً مهماً لكثير من الاشكال والاساليب الفنية. استعمل المسلمون فن الخزف في صنع بلاطات ونجوم لكسوة الجدران وفي صنع شتى الاواني والتحف من اكواب واباريق وفناجي وقوارير ومسارج واقداح وصحون مختلفة الشكل والعمق وازبار وعلب ومباخر وشمعدانات وبيوت للطيور وسواها وقد اصاب فنان الخزف المسلمون توفيقاً عظيماً في اتقان انواع الطلاء الممتازة ثم ابداع الالوان الفاخرة وتنويعها. وتميزت بعض الاقاليم والمراكز الفنية يتفضيل بعض الالوان على غيرها ان الالوان الرئيسة التي ذاع استعمالها في فن الخزف الاسلامي فهي لون ابيض جبدي ولون ازرق زرنيخي، ضارب الى الخضرة ولون ازرق فيروزي ولون احمر بنفسجي، اهم ما تميزت به الاواني الخزفية الاسلامية الفاخرة هو البريق المعدني فالخزفيون المسلمون في شتى بقاع العالم الاسلامي استطاعوا ان يكسبوا الخزف فيما بين القرنين الثالث والتاسع بعد الهجرة بريقاً معدنياً يختلف لونه بين الاحمر النحاسي والاصفر الضارب الى الخضرة. وقد عثر المنقبون على تحف من الخزف ذات البريق المعدني في ايران وعراق ومصر وافريقية والاندلس فلا عجب اذا اختلف مؤرخو الفنون في موطن صناعتها الاول، فنسبها بعضهم الى ايران ونسبها آخر الى مصر ونسبها الالمان من خبراء الآثار الاسلامية الى العراق.
والواقع يا اخي هو ان آثار فن الخزف قد وجدت في ايران والعراق ومصر في صدر الاسلام ولا يوجد من الادلة ما يسوق نسبة ابتداعها الى اقليم معين من هذه الاقاليم الاسلامية بيد ان وجودها في ايران منذ العصور الاسلامية الاولى ثابت بأدلة بينة فقد عثر في اطلال بعض المدن الايرانية على قطع خزفية ذات بريق معدني وعليها امضاء صانعها وتدل اسماءهم على انهم ايرانيون مما يرجح ان هذه القطع الخزفية مصنوعة في هذا الاقليم وغير هذا فقد وجد في اطلال مدينة ساوة قطعتان تالفتان في الفرن، كما عثر في مدينة سوس على قطع اخرى تالفة واطلال فرن خزفي وعوامل من التي توضع عليها الاواني لاحراقها في الفرن بل ان بعض هذه العوامل عليه آثار المادة التي ينتج منها البريق المعدني، واصحاب النظرية القائلة بنسبة ابتداع البريق المعدني الى ايران يحتجون ان هذا الاقليم كان في القرنين الثالث والرابع بعد الهجرة قد قطع شوطاً بعيداً في سبيل الحضارة الاسلامية وكانت له صناعة خزفية زاهرة وبأن ما وجد فيها من الخزف ذي البريق المعدني هو اكثر مما وجد في العراق فضلاً عن انه وجد في مراكز فنية مختلفة ومتباعدة في حين لم يوجد في العراق الا في سامراء ثم ان ابدع انواع الخزف في البريق المعدني الذي عثر عليه في ايران في مدينتي الري وساوة. اما نسبة ابتداع البريق المعدني الى مصر ففيها نظر، لان صناعة الخزف المصري في العصر القبطي لم تكن زاهرة كما كانت صناعات النسيج او الزجاج او الحفر على الخشب مثلاً، الى جوار ان اقدم ما عرف من الخزف ذي البريق المعدني في مصر يرجع الى العصر الطولوني في نهاية القرن الثالث الهجري وهو لا يختلف كثيراً عن الخزف ذي البريق المعدني الذي عرفته سامراء والري والسوس وقلعة بني حماد ومدينة الزهراء والواقع هو ان اقدم هذا النوع من الخزف في مصر بينه قطع لاشك في تبعيتها للنوع الذي ينسب الى سامراء والارجح انه قد جلب من العراق وفي اطلال الفسطاط بمصر قطع اخرى ذات بريق معدني اغلبها ذولون واحد تمتاز بطينتها التي تميل الى الاحمر وبميناها الرقيقة، اما زخارفها فمأخوذة عن زخارف القطع الواردة من العراق ومن المرجح ان نشأة الخزف ذي البريق المعدني كانت في العراق في بداية القرن الثالث الهجري وتشهد التحف التي كشف عنها من هذا الخزف في سامراء بأزدهار صناعته في العراق فهي تمتاز برقتها وابداع الوانها وما فيها من تلائم بين الذهبي والارجواني والبرنزي الى جوار ما تمتاز به زخارفها من الروعة والجمال وهي بعد هذا كله اقدم قليلاً من التحف ذات البريق المعدني في ايران فأن هذه الاخيرة ترجع في الغالب الى نهاية القرن الثالث او بداية القرن الرابع بعد الهجرة.
والريق المعدني الذي عرفه فن الخزف هو في غالبه ذهبي اللون في درجات متفاوتة والنقوش ذات البريق المعدني عادة ما تكون على ثلاثة انواع، الاول نقوش ذهبية اللون على ارضية بيضاء والثاني نقوش حمراء او قرمزية على ارضية تكون في غالبية الاحيان بيضاء ايضاً والثالث نقوش متعددة الالوان صفراء وسمراء وزيتونية على ارضية بيضاء. ان انتاج هذه الاواني ذات البريق المعدني يتطلب احراقها احراقاً اولياً بعد تمام عملية التجفيف ثم طلاءها بالدهان او المينا وهي المادة الزجاجية التي تطلى بها الاواني الخزفية المحروقة احراقاً اولياً ثم ترسم النقوش فوق الدهان بطبقة دقيقة من الاملاح المعدنية وتحرق بعد ذلك في فرن خاص احراقاً نهائياً في درجة حرارة منخفضة. هذا وقد ذاعت في العالم الاسلامي يا اخي اساليب اخرى في زخزفة الخزف غير البريق المعدني واهمها رسم الزخرفة تحت الطلاء بلون واحد او بألوان متعددة كما عرفت اساليب اخرى في بعض المراكز الفنية وفي بعض العصور فكان الخزفيون احياناً يضغطون باليد على العجينة اللينة لتهيئة حافتها او تكوين بعض العناصر الزخرفية فيها وكانوا يحفرون الرسوم يطرق شتى وفي عمق مختلف ويشكلون الزخارف البارزة تشكيلاً دقيقاً جميلاً، كما كانوا في احيان اخرى يخرمون جدران الاواني ويغطون الخروم بالطلاء فتبدو شفافة، هذا كله الى جوار تزيين التحف بالرسوم ذات اللون الواحد او الالوان المتعددة فوق الطلاء، وقد اقبل الخزفيون المسلمون ولا سيما في ايران والعراق ومصر على تقليد بعض انواع الخزف والبرسلين الصيني كما عرفوا ايضاً فخار غير مطلي لكن قيمته الفنية ضيئلة في معظم الاحيان وكان تطوره بطيئاً جداً. ومما يلاحظ في هذا الفن بشكل عام ان صناعته كانت في بداية الامر ناظرة الى صناعة الخزف الساساني بيد ان الخزف الاسلامي اخذ في فجر الاسلام يبتعد شيئاً فشيئاً عن الاساليب الفنية القديمة حتى غدا له طابع اسلامي ظاهر منذ القرن الثالث الهجري ولما توثقت علاقة اقاليم العالم الاسلامي ببلدان آسيا الوسطى والصين اقبل صناع الخزف فيه على اقتباس الاساليب الفنية والزخزفية من الخزف الصيني وعلى استعمال الصور الادمية ذات الملامح الصينية في زخرفة منتجاتهم. ومن الموضوعات الزخرفية التي استعملها الفنانون المسلمون الخزفيون الرسوم الهندسية لاسيما المناطق والدوائر والعقود المتشابكة والطيور المتقابلة او المتدابرة والحيوانات التي تحيط بها الفروع النباتية والوريقات والازهار، اضافة الى الرسوم الادمية. احبتي المستمعين الكرام حتى لقاء آخر اتمنى لكم كل خير.
*******