البث المباشر

الرومانسية والهروب من ضيق الواقع

الأربعاء 23 يناير 2019 - 10:50 بتوقيت طهران

الحلقة 5

السلام عليكم ايها الاصدقاء الاعزاء، تنامت حركة الاستشراق في الرسم الفرنسي مع تولد تيار الرومانسية الذي يبحث عن مهرب عن الواقع الاوربي الضيق عن طريق الاقتراب والتوجه الى الشرق، مصدر السحر والالهام للفنان الاوربي وقد ظهرت اسماء ولوحات لعدد جم من هؤلاء الرسامين بجمعهم في استشراقهم اتجاهان هما وجهان لعملة واحدة اولهما اظهار الشرق الاسلامي بمظهر القسوة والعنف والافراط في الحسية والميول الشهوانية الصارخة وثانيهما التعبير عن اندهاش الفنان الغربي بالحياة والطبيعة الشرقية التي كانت تمثل لديه حلم الهروب من الضغط المادي في نمط الحياة الغربية وقد كان اوجيند ولكروا واحداً من هؤلاء الفنانين البارزين الذين رسموا مشاهد شرقية تكشف عن انطباعاتهم وميولهم، كانت الثورة الفرنسية في سنوات مخاضها الاولى والحملة الفرنسية على مصر تتخبط في مشاكلها حين ولد اوجيندو لكروا في ضاحية بباريس عام ۱۷۹۸ للميلاد من طبقة برجوازية شاركت في انجاح الثورة الفرنسية، قضى اوجين طفولته في مدينة بوردو وهي طفولة متميزة بكثرة حوادثها وفي باريس تأصل موهبة الرسم في نفسه بعد زيارته للمتاحف الكبرى وتعرفه كبار الرسامين وبدأ الاستشراق يستهويه فأنجز لوحة مجازر ساقز ثم لوحته موت ساردنديال وحتى عام ۱۸۳۲ للميلاد لم يكن غادر فرنسا الامرة واحدة حيث قام بزيارة سريعة لانجلترا وكل ما يعرفه عن الشرق هو حصيلة معلومات جامعها من ادباء او مبعوثين او رحالة او من صنع خياله، وبعد اضلال الاستعمار الفرنسي للجزائر كلفت الحكومة الفرنسية الكوندو بورناي بزيارة المغرب للتفاوض مع السلطان عبد الرحمن وقد صحب المبعوث الخاص معه دولاكروا ولدى الوصول الى طنجة انبهر دولاكروا بما رآه في هذه المدينة‌ الشرقية وهذا ما عبر عنه في اول رسالة كتبها الى اخيه، «ان دهشتي لكبيرة من كل ما رأيت، لقد نزلنا وسط شعب مثير للغرابة واستقبلنا باشا المدينة، يحيط به جنوده لا يمكنني اعطاء فكرة ولو يسيرة عما اشاهد الا إذا كان لي عشرون يداً والا إذا كان النهار يتسع لثمان واربعين ساعة، انني اعيش وكأني في حلم وانظر الى الاشياء بفضول، خشية ان تهرب مني وهكذا وقع الشرق الذي طالما تخيله تحت انظاره مباشرة وشدت انتباهه اشياء‌ كثيرة ‌كالطبيعة والازياء والالوان والوجوه والعادات وقد راقب النساء المتحجبات بثياب فضفاضة، كما حضر عرساً يهودياً ثبته في احدى لوحاته ومن طنجة التي اقام فيها شهرين ذهب الى مكناس عبر صحراء قاحلة لاتخلو من مخاطر، ومن لوحاته التي تمخضت عنها هذه الرحلة استقبال مولاي عبد الرحمن سلطان المغرب ونساء من الجزائر التي اختمرت لديه اثناء توقف السفينة ثلاثة ايام في الجزائر.
لوحته مجازر ساقز التي بدأ برسمها عام ۱۸۲٤ للميلاد تمثل موقفه انذاك في ابراز الشرق المسلم في صورة متوحشة دموية، كان الفرنسيون يتابعون بشغف وقلق اخبار اليونان والحركة الانفصالية عن جسم الدولة العثمانية والموقف العثماني في حزب المتمردين اليونايين، وبدأ دولاكروا يصـور مشـهد الهجـوم التركي على اليونانيين في جزيرة ساقز مستعيناً بخبرات آخرين وقد قبلت لوحته في المعرض السنوي في تلك السنة بعد ان استغرق العمل فيها عاماً كاملاً، اللوحة الاستشراقية هذه تحاول ابراز مآسي ثلاث، رافقت ما سماه المجازر، هي الموت واليأس والسبي، مجموعها هذه المشاهد الثلاثة يكون لوحة تختصر العنف والهمجية مكررة على العذاب الجسدي والنفسي في غياب كل بارقة امل، لقد ارادها دولاكروا لوحة للشر المنتصر والسماء التفرجة، ارادها صورة العنف والوحشية الطاغية على الجمال والبراءة.
واللافت للنظر هو انه على الرغم من استهجان النقاد لللوحة التي عدوها مجزرة للفن اشترتها الحكومة الفرنسية بستة الاف فرنك، لقد كان دولاكروا وهو لما يتجاوز السادسة والعشرين اول من اطلق اطلاقاً واسعاً صورة الشرق الموسوم بالعنف والهمجية والمشاهد الحسية ولوحة نساء من الجزائر تمثل تحولاً لدى دولاكروا وهي تخلد معرفته المباشرة بسر من اسرار الشرق وهو المرأة، فقد جمع انطباعاته كلها في هذه اللوحة فرسم ثلاثة وجوه تشكل نماذج لنساء شرقيات والبسها من الحلي ما تنوء به امرأة ووضعها في اطار اعتبره نموذجاً لخدر النساء في الشرق، فاللوحة استعراضية اكثر منها واقعية، كما انها تصوير لاطار شرقي وطريقة عيش ولابد من القول هنا ان هؤلاء النسوة الثلاث لايمثل قضية على الاطلاق ولا نلاحظ على وجوههن تعبيراً واضحاً عن الرضى والحزن او الارتياح او الثورة، فالنظرات شائحة الى البعيد ولا نعرف بماذا تحدق المرأة هنا، حلية وضعها الرجل داخل منزله ليزين بها داره.
الشيء المهم هنا هو ان اشياء قد تبدلت في رسم دولاكروا بعد زيارته للمغرب، المرأة مثلاً لم تعد تمثل في ذهنة‌ العرية والاباحية والاشكال الحسية والاعزاء بل اصبحت كائناً بشرياً، على الرغم من الهالة التي ظلت تحيط بخفايا حياتها في داخل الخدر وحصل تغيير آخر في الالوان، الشرق لم يعد بلد الالوان الزاهية لذلك فأن الاحمر القاني والاسود المظلم، ترك المجال للالوان الممزوجة الناعمة والطرية، واخيراً لم يعد الشرق ارض العنف والقتل والدمار والدم والمجازر والمشاهد المثيرة وانما بلاد لها تقاليدها وعاداتها التي يمكن التوصل الى فهمها والتعلق بها اذا ما استطعنا الدخول في اعماقها.
يمكن القول ان الرسام الفرنسي دولاكروا قد فتح ابواب الشرق على مصاريعها للفنانيين الاوربيين عامة وللفرنسيين منهم خاصة، ذلك انه قد تمكن من تجسيد موضوعات ظلت وهماً في خيال الاوربيين كحذر النساء والفروسية والعادات الشرقية وما اليها ولكن ماذا كانت حصيلة زيارة دولاكروا للشرق على الصعيد الفني، ان هذا الرسام اكتشف ما امكنه ذلك الحياة العربية في وجوه الانسانية فهو لم يرسم الا القليل من المشاهد الطبيعية في حين لاتكاد تحصى رسومه للاشخاص منفردين او ضمن مجموعة وقد دون في مفكرته الوان الازياء ونبل الحركات التي تدل على اعتزار العربي وعنفوانه وابرز مثال على هذا، لوحته الشهيرة «مولاي عبد الرحمن» اما نظرته الى المرأة الشرقية‌ فقد تبدلت كما عرفنا آنفاً ونعرف دولاكروا في الشرق الى عالم الحيوان وخاصة الخيول العربية المطهمة ‌التي كان لها في اعماله موضعاً مرموقاً، الخيول استرعت وعيه لما لها من عزم وانفة، والنماذج البشرية في الشرق تعمقت في مخيلته واثرت في فنه، نكتفي بقراءة فقرة من رسالة كتبها الى صديق له عام ۱۸۳۲ للميلاد يصف فيها المتسولين، «تصور ماذا يعني ان ترى مع خيوط الشمس المذهبة عند المغيب اشخاصاً يشبهون القناصلة الرومانية لكنهم ممددون على الارض او متجولون في الشوارع واراهم سعداء اكثر مما كان شعشرون على كرسيه العاج. والسلام عليكم ورحمة الله.

*******

 

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة