بطريقةٍ مختلفة، وعلى عكس برودة جوّها، تستقبل كازاخستان عامها الجديد باحتجاجاتٍ نارية غير مسبوقة، ظهرت شرارتها الأولى بعد رفع أسعار الغاز المسال الذي يستخدمه المواطنون في التدفئة، كما يستخدمونه كبديل من وقود السيارات أيضاً.
وعلى الرغم من أن الاحتجاجات اشتعلت في البداية في منطقة مانغيستاو غربيّ البلاد، فإنها انتقلت بسرعةٍ إلى مناطق أخرى من كازاخستان، لتشمل أكبر مدن البلاد والعاصمة الاقتصادية ألما أتا، إضافةً إلى العاصمة الحالية نور سلطان (أستانة سابقاً).
غضب الغاز يطيح الحكومة
في الأول من كانون الثاني/يناير الحالي، بدأت القصة عندما قررت حكومة عسكر مامين رفع أسعار الغاز المسال بنسبة 100%. وفي اليوم الثاني، تفجّرت الاحتجاجات، وخرج الآلاف في شوارع مدينة جناوزين، مركز صناعة النفط في كازاخستان، مطالبين الحكومة بخفض أسعار الغاز المسال إلى النصف من 120 تينجي (0.27 دولار) لليتر الواحد.
حاولت الحكومة في البداية تهدئة المتظاهرين عبر خفض سعر الغاز المسال وتثبيته عند 60 تينجي (0.13.5 دولار) لليتر الواحد في المنطقة، مقابل 120 تينجي في بداية العام، ولكن الأمر فشل، وصرّحت الحكومة بأنّ إجراء المزيد من التخفيضات بسبب تكاليف الإنتاج بات شبه مستحيل.
ذكرت صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية أنّ التظاهرات بدأت بالفعل على خلفية رفع أسعار الغاز المُسال، لكنها تحوّلت إلى انتقادات خانقة وحادّة للفساد المستشري الذي أدى إلى تركّز الثروة بيد نخبة سياسية واقتصادية صغيرة في البلاد.
وفي محاولةٍ أخرى لتهدئة غضب المتظاهرين الذين أحرقوا المباني الحكومية ومقر إقامة الرئيس قاسم زومارت توكاييف في مدينة ألما أتا، احتجاجاً على الأداء الحكومي وارتفاع الأسعار، أقال الرئيس الكازاخستاني الحكومة وعيّن النائب الأول لرئيس الوزراء، عليخان سمايلوف، رئيساً للحكومة بالوكالة، كما أنّه أعلن حالة الطوارئ في عاصمة كازاخستان، نور سلطان، وفي ألما أتا.
وبعد فشل كل محاولات التهدئة مع المتظاهرين ومصرع 12 من عناصر قوات الأمن وجرح المئات عند محاولتهم الاستيلاء على مبانٍ حكومية، طلب الرئيس الكازاخستاني المساعدة من قادة الدول الأعضاء في منظمة معاهدة الأمن الجماعي التي تضم روسيا وأرمينيا وروسيا البيضاء وكازاخستان وطاجيكستان وقرغيزيا، وذلك للتغلب على هذا التهديد الإرهابي، بحسب وصف توكاييف.
سريعاً، استجابت منظمة معاهدة الأمن الجماعي لدعوة الرئيس الكازاخستاني، إذ أعلن رئيس الوزراء الأرميني، نيكول باشينيان، الذي يترأس مجلس الأمن الجماعي للمنظمة، أنّ الأخيرة قررت إرسال قوات حفظ سلام جماعية وفقاً للمادة 4 من المعاهدة، والتي تنص على أن "أي هجوم مسلح يهدّد أمن أراضي أحد أعضائها وسيادتها واستقرارها، سيعتبر عملاً عدوانياً ضد جميع الدول الأعضاء"، نظراً إلى تهديد الأمن القومي وسيادة جمهورية كازاخستان بسبب التدخل الخارجي.
وبحسب بيان الأمانة العامة لمنظمة معاهدة الأمن الجماعي، فإنّ المهام الرئيسية لقوات حفظ السلام ستتمثل بحماية المنشآت الحكومية والعسكرية المهمة، إضافةً إلى مساعدة قوات الأمن الكازاخستانية في العمل على تحقيق الاستقرار.
على هذا النحو، اعتبرت عضو اللجنة الدائمة للجمعية البرلمانية لمنظمة معاهدة الأمن الجماعي، أولغا كوفيتيدي، أنّ استعادة السلام والأمن في كازاخستان ممكن فقط بمساعدة المنظمة.
روسيا تتّهم.. والولايات المتحدة تراقب
تتمتّع كازاخستان بموقعٍ استراتيجي مميز وسط آسيا، وهي تقع بين روسيا والصين، وتعدّ واحدة من المناطق الأكثر أهمية على رقعة الصراع الجيوسياسي المشتعل بين روسيا والولايات المتحدة الأميركية، كما أنّ اقتصادها يعدّ أكبر اقتصاد في آسيا الوسطى، وشهدت في الماضي نمواً كبيراً، لكنها تضررت في العام 2014 جراء هبوط أسعار النفط الذي تعتمد عليه كثيراً.
لكازاخستان أهمية اقتصادية كبرى بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأميركية في مجال الطاقة، إذ استثمرت شركتا "إكسون موبيل" و"شيفرون" عشرات المليارات من الدولارات في غرب كازاخستان؛ المنطقة التي بدأت فيها الاضطرابات هذا الشهر.
وعلى الرغم من أنَّ لكازاخستان علاقات وثيقة مع موسكو، فإن الحكومات الكازاخستانية المتتالية حافظت كذلك على روابط وثيقة مع الولايات المتحدة، إذ يُنظر إلى الاستثمار النفطي الأميركي على أنه ثقل موازٍ للنفوذ الروسي، كما أنّ الانتقادات الموجهة إلى كازاخستان من قبل واشنطن أقل بكثير من الانتقادات إلى روسيا و بيلاروسيا، وفق ما ذكرت صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية.
وهنا، نذكر تصريح وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، الذي جدّد دعم الولايات المتحدة الكامل للمؤسسات الدستورية في كازاخستان وحرية الإعلام، مشدداً على الحل السلمي.
في المقابل، تشكل التطورات المتسارعة في كازاخستان قلقاً منطقياً لموسكو التي تعيش ذروة تردي علاقاتها مع الغرب، بسبب الأزمة مع أوكرانيا ونيات حلف شمال الأطلسي التوسع شرقاً تحت ستار هذه الأزمة.
وتعليقاً على الأحداث التي تشهدها البلاد، أعلنت الخارجية الروسية أنها تتابع تطورات الأحداث هناك عن كثب، واعتبرت الأحداث الأخيرة في دولة صديقة محاولة مستوحاة من الخارج لتقويض أمن الدولة وسلامتها بالقوة باستخدام تشكيلات مسلحة مدربة ومنظمة. هذا الأمر رفضته واشنطن على لسان المتحدثة باسم البيت الأبيض، جين ساكي، ووصفت هذه الاتهامات بأنها "مجنونة وغير صحيحة مطلقاً".
ويمكننا القول إنّ أي ضرر يلحق بالمصالح الروسية قد تعتبره واشنطن فوزاً، رغم أنَّ علاقات كازاخستان بالغرب جيدة، كما ذكرنا، وهي تركز منذ استقلالها على الجوانب الاقتصادية وتقديم نفسها باعتبارها مركزاً لتلقي الاستثمارات الأجنبية، وخصوصاً في مجال الطاقة والزراعة.
لذلك، وفي ظلّ تزايد الاضطرابات بين الولايات المتحدة الأميركية من جهة، وروسيا والصين من جهةٍ أخرى، فإنّ واشنطن تفضل جرعات إضافية من الاضطراب في محيط الدولتين، ولو كان ذلك على حساب المصالح الاقتصادية مع كازاخستان، ولا سيما أنّ الولايات المتحدة انسحبت من أفغانستان، وبالتالي لن تؤثر الفوضى المحتملة فيها بشكلٍ مباشر.
ماذا عن الصين وتركيا وإيران؟
أما الصين، التي تملك حدوداً مع كازاخستان، فإنَّ حضورها تصاعد بشكلٍ كبير في المنطقة، ولا سيما في المجال الاقتصادي. هذا الأمر لا يغضب روسيا، بسبب تطابق المصالح بين موسكو وبكين في مواجهة واشنطن. تبحث الصين عن أعلى مستويات الاستقرار في آسيا الوسطى لتأمين مبادرة "الحزام والطريق" وحماية مشروعاتها، كالمطارات والموانئ وغيرها.
بالنسبة إلى تركيا، جاءت احتجاجات كازاخستان في وقت حسّاس جداً، ولا سيّما أنها تمرّ بظروفٍ اقتصادية استثنائية، كما أنها رفعت أسعار الغاز أيضاً بنسبة أعلى من تلك التي رفعتها الحكومة في كازاخستان.
ولدى كازاخستان تحديداً علاقات وثيقة مع تركيا في المجالات الاقتصادية والسياسية، ومحاولات رمزية لإحياء الإرث التركي المشترك. لذلك، حرصت تركيا على إبداء موقفٍ حذر من الأزمة، إذ عبّر بيان الخارجية التركية عن ثقتها التامة بقدرة الإدارة الكازاخية على تجاوز أزمة الاحتجاجات في البلاد جرّاء زيادة أسعار الغاز المسال.
وجاء في بيان لأنقرة: "نتابع عن كثب الاحتجاجات التي انطلقت الأحد الماضي، وأدت إلى استقالة الحكومة الكازاخية". تركيا عبّرت عن أملها بـ"ضمان أمن ورفاه الشعب الكازاخي الشقيق وانتهاء الاحتجاجات في أقرب وقت".
دخت إيران أيضاً على خط الأزمة في كازاخستان، وحذّرت من انتهاز الفرصة من قبل العملاء الأجانب لتحقيق أهدافهم، وذلك بعد مواجهات بين المتظاهرين وقوات الأمن أوقعت قتلى ومصابين من الطرفين.
المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية، سعيد خطيب زاده، قال إنّ "استقرار كازاخستان وأمنها مهمان لإيران، ويجب أن لا تتهيأ الأرضية للانتهاكات من قبل العملاء الأجانب".
لم تعد عملية تحديد هُوية الاحتجاجات في العالم سهلة، بين تلك التي لها موجباتها وأسبابها الداخلية، وتلك التي تتعرض للعبث. من هنا، يبقى المشهد في كازاخستان مفتوحاً، ولا سيّما بعد أن نالت جورجيا وأوكرانيا وقرغيزيا نصيبها من الثورات الملونة في السابق.
المصدر: الميادين نت + وكالات